قصة يوسف عليه السلام من قصص الانبياء القصة مكتوبة

قصة يوسف عليه السلام من قصص الانبياء القصة مكتوبة

قصة يوسف عليه السلام من قصص الانبياء القصة مكتوبة

قصة يوسف عليه السلام من قصص الانبياء القصة مكتوبة

قصة جديدة من قصصص الأنبياء قصة اليوم بعنوان يوسف عليه السلام مكتوبة

قصة يوسف عليه السلام مكتوبه

مَكْرُ إخْوةُ يُوسُفَ بِهِ وَتآمُرِهِم عَلَيْهِ

يَذْكُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أُخْوَةَ يُوسُفَ قَدْ حَقَدُوا عَلَيْهِ وَحَسَدُوهُ على حُبِّ أَبِيهِ إيَّاهُ، وَعلى مَا أُوْتِي مِنْ عِلْمٍ وَجَمَالق وَجَلاَلٍ، فَأْتَمُروا على قَتْلِهِ أَوْ إِبْعَادِهِ عَنْ أَبِيْهِ فِيْ أَرْضِ بَعِيْدَةٍ، لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ مِنْهَا إِلَيْهِ.. لَكِنَّهُم لَمْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا على ذلك، ولاَ طَرْحُهُ فِيْ أَرْضٍ بَعِيْدَةٍ..

فَأشَارَ عَلَيْهِم بِإلْقَائِهِ فِيْ غَيَابِةِ الْـجُبِّ لِيَلْتَقِطَهُ الْـمُسَافِرُونَ، وَيَذْهَبُوا بِهِ بَعِيْدًا.

وَأَجمَعُوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيْ أَعْمَاقِ الْـجُبِّ، وَهُوَ بِئْرٌ عَمِيقٌ غَائِرُ الْـمَاءِ، وَانتَظَرَ يُوسُفُ الفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وهُوَ فِيْ ذَلِكَ الْـجُبِّ الْـمُوحِشِ.

وَظَلَّ يُوسُفُ فِيْ الْـجُبِّ حَتَّى جَاءَتْ قَافِلَةٌ تِجَارِيَّةٍ، فَحَطُّوا رِحَالهم بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَانِ الْـجُبِّ، وَأرْسَلُوا مِنْ يَأْتِيْهِم بِالْـمَاءِ مِنَ البئْرِ.. فَأَدْلَى دَلْوَهُ فِيْهِ فَتَعلَّقَ يُوسُفُ به.

فَلَمَّا رَآهُ السَّاقِي طَارَ فَرَحًا، وَاسْتَبْشَرَ خَيْرًا، وَأَخْفَاهُ مَعَ رِفَاقِهِ، وَانْطَلَقُوا بِهِ إلى مِصْرَ حَيْثُ بَاعُوهُ هُنَاكَ لِرَئِيْسِ الْـجُنْدِ وَأَمِيْرِ الْـخِزَانَةِ، وَهُوَ مَا يُلَقَّبُ بِالعَزِيْزِ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُم بِثَمَنٍ بَخْسٍ (بِخَمْسِ دَرَاهِمٍ).

وَانْطَلقَ العَزِيْزُ بِيُوسُفَ إلى بَيْتِهِ فَرِحًا، وشَاركَتْهُ امْرَأتُهُ فَرْحَتَهُ، فَقَالَ لَها: أَحْسِنِي إلَيْهِ فِيْ كُلِّ شَيءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَعَسى أَنْ يَنْفَعَنَا فَإِنِّي أَرَى فِيْهِ مِنَ النَّجَابَةِ وَالذَّكَاءِ وَسِعَةِ الإدْرَاكِ وبُعدِ النَّظَرِ مَا يُؤَهِلُّه لِذَلِكَ.

مِحْنَتَهُ مَعَ امْرَأةِ العَزِيْزِ:

وَعَاشَ يُوسُفُ فِيْ بيْتِ العَزِيْزِ زَمَنًا لاَ يَجِدُ مِنْهُ وَلاَ مِنْ زَوْجَتِهِ إلاَّ الْـحُبَّ والإِجلاَلِ وَالتَّقْدِيْرِ، حَتَّى سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لامْرَأةِ العَزِيْزِ أَمْرًا مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقعَ مِنَها أو يَصْدُرَ عَنْهَا، فَقَد رَاوَدتْهُ عَنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَأْبَى وَيَعْتَصِمُ بِاللِّهِ.

وَقَد بَلَغ بِهَا الْـحُبُّ مَبْلَغَهُ، وَافْتُتَنَتْ بِجَمَالِهِ، وَضَاقَتْ ذَرْعًا بِتَعفُّفِهِ وَاسْتِعْصَامِهِ، فَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ عَلَيْهِ وَخَلَتْ به، وقَالَت: أَنَا قَدْ تَهَيَّأْتُ لَكَ!

فَالْتَفَتَ إلى السَّمَاءِ وَهِي قِبْلَةُ الدَّاعِي يَلْتَمِسُ النَّجَاةَ مِنْ أَشْنَعِ عَمَلٍ أَنْكَرَتْهُ الأَدْيَانُ السَّمَاوِيَّةُ، فَقَال لَهَا: مَعَاذَ اللَّهِ، ووَعَظَهَا وَعْظًا بَلِيغًا.

وَلَكِن عَزَّ عَلَيْهَا أَنْ يَرْفُضَ وَهِيَ ذَاتُ الْـحَسَبِ وَالْـمَنْصِبِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْـخَادِمِ، فَهَمَّتْ بِضَرْبه، فَهمَّ بِضَرْبِهَا إنْ ضَرَبَته..

وَقَد رَأَى بِنُورِ اللَّهِ أَنْ يَفِرَّ مِنْ وَجْهِهَا إلى البَابِ الْـخَارِجِيِّ، فَأَسْرَعَتْ خَلَفَهُ لِتَردَّهُ إِلَيْهَا ..

وَقَدْ قَدَّت قَمِيْصَهُ مِنْ دُبُرٍ فَقَطَعَتْهُ طُولاً مِنْ أَعْلَى إلى أَسْفَلَ، ولَكِنَّهُ مَضَى إلى البَابِ فَفَتَحَهُ، فَإِذَا بِالعَزِيْزِ عِنْدَهُ فَرَأَى مَا هَاله وَأَدْهَشَهُ؛ فَأَسْرَعتْ إِلَيْهِ تَشْكُوا يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ.

وقَالَت: لاَ أَرَى إلاَّ أنَّ تَسْجِنَ هذَا الْـخَائِنَ أو تُعَذِّبَهُ.

مَا كَانَ مِنْ يُوسُفَ عليه السلام إلاَّ أَنْ وَقَفَ مَوْقِفَ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ، وَشَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ: هِي رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَأَنَا تَمَنَّعْتُ وَتَعَفَّفْتُ وَاعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ.

نَظرَ العَزِيزُ فِيْ القَمِيْصِ فَعَرفَ بَرَاءةَ يُوسُفَ، فَزَجَرَ امْرَأتَهُ وَجَعلَهَا مَنْ عَامَّةِ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَتَنَزَّهَنَّ عَنِ الْكَيْدِ والْـمَكْرِ، وَقَدْ وَاسَى يُوسُفُ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَأَوصَاهُ أَنْ يَصْرِفَ النَّظَرَ عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنْ اَمْرَأتِهِ.. وَأَمَرَهَا أَن تَسْتَغْفِر اللَّهَ.

مَكرُ النِّسْوَةِ بِامْرَأةِ العَزِيْزِ:

إِنَّ النِّسَاءَ مَعْرُوفَاتٍ بِالثَّرْثَرةِ وَكَثْرَةِ النَّجْوَى، وَالْـخَدُمُ جَوَاسِيْسٌ على أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِذَا عَرِفُوا شَيْئًا مَلأَوا بِحَدِيْثِهِ البِقَاعَ.. وَلِهَذَا شَاعَ الْـخَبَرُ وَتَنَاَقَلَتْهُ النِّسْوَةُ حَتَّى انْتَهَى حَدِيْثُهُنَّ، وَجَهَّزَتْ لهنَّ مُتْكَئًا حَافِلاً بِالفَوَاكِهِ وَالأَطْعِمَةِ.. وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِيْنًا حَادَّة، وَأَمرَتْ يُوْسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عَظِمْنَهُ، وَمُلئَتْ شَغَافُ قُلُوبهم مَهَابةً وَسَحَرَ عُيَونَهُنَّ جَمَالُهُ.

ونَـجَحَتِ امْرَأةُ العَزِيْزِ فِيْ خُطَّتِهَا، فَقَالَتْ لهنَّ وَالدِّمَاءُ تَسِيْلُ مِنْ أَيْدِيْهِنَّ: فَذَلِكُنَّ الَّذي لُـمْتُنَنِّي فِيْهِ، فَكَيْف بِي وَهُوَ يُلاَزِمُنِي فِيْ بَيْتِي، وَيَدنُو مِنِّي وَأَدنُو مِنْهُ، وَأدْعُوهُ إليَّ فَيَأْبَى!! وَلَكِنِّي سَوْفَ أَنَالُ مِنْهُ مَا أُرِيْدُ، أَوْ يَكُونُ مَصِيْرَهُ السِّجْنُ.

لَقَدِ اعْتَرفَتْ لهُنَّ بِإدَانَتِهَا، وَاعْتَرفَتْ لهنَّ بِبَرَاءتِهِ مِنَ السُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِهَذَا الاعْتَرَافِ أَنْ تَغِيْظَهُنَّ!

وَهَكذَا تَسْتَبِدُّ الْـمَرأَةُ بِالأَمْرِ الَّذِي تَظُنُّ أَنَّها قَادِرَةٌ عَلَيْهِ، وَتِظْهِرُ لهنَّ عَدَمَ الاكْتَرَاثِ بِمَكْرِهِنَّ وَتَشْنِيعِهِنَّ عَلَيْهَا.

وَفِيْ نَظَرَي أَنْ هَذِهِ الْـمَرأةَ لَمْ يُؤْتِهَا اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْـحِكْمَةِ، وَلوْ كَانَ لَدَيهَا شَيءٌ مِنَ الفَهْمِ لَعَرِفَتْ يُوسُفَ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ مَنْ هُوَ؟

لَعَرِفَتْ أنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيْهِ كُلُّ خِصَالِ الْـخَيْرِ، وَكُلُّ أَوْصَافِ الكَمَالِ البَشَرِيِّ، وَأنَّهُ بِطَبِعِه مَصُونٌ عَنْ كُلِّ رَذِيْلَةٍ، مَعْصُومٌ عَنْ كُلِّ سُوءٍ، وَإنَّ النِّسُوَةَ اللاَّتِي مَكَرَتْ بِهنَّ أَعْقَلَ مَنْهَا، فَقَد أَصْدَرْنَ حُكْمَهُنَّ عَلَيْهِ مَنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَقُلْنَ مَا قَد حَكَى القُرْآنُ عَنْهُنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيْمٌ.

مُنَاجَاةٌ وَاسْتِغَاثَةٌ:

وَقَدْ رَأَى يُوسُفُ عليه السلام أَنَّ الْـخَطَرَ لَـحِقَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأضْحَى فِيْ كَرْبٍ عَظِيْمٍ وَهَمٍّ لا يُطَاقُ، فَاسْتَغَاثَ به، وَفَضَّلَ السِّجْنَ على مَا هُوَ فِيْهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ؛ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ النِّسْوَةِ، وَلَـمَّا اشْتَهَرَ حَدِيْثُهُ بَيْنَ خَاصَّةِ الْقَومِ فَاجْتَمَعُوا لِيَتَشَاوَرُوا فِيْمَا بَيْنَهُ على إِبْعَادِهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْهُ، فَقَرَّرُوا بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيْلٍ أَنْ يَلْقُوهُ فِيْ غَيَابَاتِ السِّجْنِ مَعَ أَنَّهُم يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ، ولَمْ يَخْتَار يُوسُفُ عليه السلام السَّجْنَ وَلَكِنَّهُ فَضَّله على مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ النِّسْوَةُ.

يُوسُفُ فِي السَّجْنِ:

دَخَلَ يُوسُفُ السِّجْنِ وَمَعهُ فتَيَانِ، أَحْدُهُما كَانَ سَاقِيَ الْـمَلِكِ، وَالآخََرُ كَانَ خَازِنَ طَعَامِهِ، وَقد عَرِفَا قَدْرِهِ فَاتَّخَذَاهُ مُرْشِدًا وَمُعَلِّمًا يَسْأَلاَنِهِ عَمَّا بَدَا لهمَا، وَيَسْتَفْتِيَانِهِ فِيْمَا لَم يُحِيْطَا بِعَمَلِهِ.

وَقَدْ اسْتَفْتَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيْ رُؤْيَا رَآهَا فَقَالَ أَحَدُهُما: ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (سورة يوسف، الآية: 36).

اغْتَنَمَ يُوسُفُ حَاجتْهُمَا إلى تَفْسِيْرِ رُؤْيَتِهمَا وَحُسْنِ إِصْغَائِهَما لِيَعْرَضَ عَلَيْهِمَا الدِّيْنَ الَّذِي ارْتَضاَهُ اللَّهُ لَهُ وَلآبَائِهِ الكِرَام، وَاصْطَفَاهُ لِنَشْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَهَّدَ الطَّرِيْقَ إلى إقْنَاعِهِم بِهَذَا الدِّيْنِ، فَذَكَرَهُم بِمَا يَجْرِي على يَدَيْهِ مِنْ كَرَامَاتٍ.

مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُهُمَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرْزَقَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيْهِمَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ، وَيَذْكُرُ لهمَا مَنَافَعَهُ وَمَضَارَهُ وَكَيْفَ صُنَعَ؟! وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ لَكِنَّهُ يَسْتَمِدَّهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

قَالَ تَعَالَى: ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (سورة يوسف، الآية، 41).

وَأَوْصَى النَّاجِي مِنْهُمَا فَأَوْصَاهُ خَيْرًا، وقَالَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ سَيِّدِكَ إِذْ جَدَّ الْـجَدُّ، وَاحْتَاجُ النَّاسُ إلى عِلْمٍ، وَأنَا لاَ أَبْتَغِي مِنْهُم أَجْرًا، وَأَجْرِيَ على اللِّهِ.

رُؤْيَا الْـمَلِكِ وَعَجْزِ الْـمَلإِ عِنْ تَأْوِيْلِهَا:

وَيَرى الْـمَلِكُ (الرَّيَانُ بْنُ الوَلِيْدِ) رُؤْيَا أَدْهَشَتْهُ، وَحَيَّرَتْ فِكْرَهُ، وَأَدْخَلَتْ فِيْ قَلْبه الهَلَعِ وَالْـجَزَعِ.

( أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ  ) (سورة يوسف، الآية، 46).

فَدَعَا أَشْرَافَ الْقَوْمِ وَسَادَاتِهِم وَعُلَمَاءَهُم، وَعَرضَ عَلَيْهِم هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَطَلَبَ مِنْهُم أَنْ يُفَسِّرُوهَا له، فَفَكَّرَ الْـمَلأُ طَوِيْلاً فِيْ أَمْرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، ولَكِنَّهُم عَجَزُوا، بَلْ وَحَكَمُوا أَنْهَا أَخْلاَطُ مِنَ الصُّوَرِ لَيْسَ لَهَا رَابِطٌ وَلاَ ضَابِطٌ.

أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ:

وَهُنَا يَتَذَكَّرُ السَّاقِيَ يُوسُفُ عليه السلام بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ فَقَالَ لِلْمَلِكِ وَمِنْ حَوْلِهِ: أَنَا قَدْ وَجْدّتُ بَغِيَّتَكُم، أَنَا أُخْبِرُكُم بِتَأْوِيْلِهَا.. وَلَكِنْ عَنْ طَرِيْقِ رَجُلٍ صَالِحٍ عَلَيْهِ سِمَاتِ الْـجَلاَلِ وَالـجَمَالِ، وَلَدَيْهِ عَلْمٌ غَزِيرٌ وَغَيْرِهَا مِنْ شُؤُون الدُّنْيَا فَأَرْسِلُونِي إِلَيْهِ..

فَأَرْسَلُوهُ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ وَجَدهُ صَابِرًا فَنَادَاهُ بِأَحَبِّ الأَوْصَافِ إِلَيْهِ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ: أَفْتِنَا فِيْ رُؤْيَا الْـمَلِكِ، وَعَجَزَ الْـمَلأُ جَمِيْعًا عَنْ تَعْبِيْرِهِا (أَيّ تَفْسِيْرِها)، وَالـمَلِكُ هَوَ الرَّيَانُ بْنُ الوَلِيْدِ أَحَدُ مُلُوكِ الهِكْسُوسِ الَّذِيْنَ اسْتَعْمَرُوا الْوَجْهَ البَحَرِّيّ لِـمِصْرَ.

وَلَـمَّا عَرَضَ السَّاقِي عَلَى يُوْسُفَ رُؤْيَا الْـمَلِكِ أَسْرَعَ يُوْسُفُ بِتَأْوِيْلِهَا وَبَيَانِ عَوَاقِبِهاَ وَمَزَجَ التَّأْوِيْلَ بِالنُّصْحِ وَالإِرْشَادِ لِـمُوَاجَهَةِ الْـجَدْبِ وَالْقَحْطِ الَّذِي سَيَنْزِلُ بِالْبِلاَدِ لِـمُدَّةِ سَبْعِ سِنِيْنَ مُتَوَاصِلَةٍ بَعْدَ َرخَاءٍ يَُدومُ سَبْعَ سِنِْينَ مُتَّصِلَةً ، وَأَخْبَرَهُم بِشَيءٍ آخَرٍ لاَ تـَحْتَمِلُه الرُّؤْيَا ، الْتَمَسَهُ بِالَوحَيِّ أَو بِالـْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيْ عَقْلِهِ وَقَلْبه ، وَقدْ نَصَحَهُم إِذَا حَصَدُوا زَرْعَهُم أَنْ يَتْرُكُوهُ فِيْ سُنْبُلِهِ بِطَرِيْقَةٍ تـَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ فِيْ مَأْكَلِهِم وَالاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَّةَ الْـجُوْعِ فَهَذِهِ السِّنُونُ السَّبْعِ تَأْوِّيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ ، والسُّنْبُلاَتِ الْـخُضْرِ تَأْوِّيْلاً لِزَرْعِ سَنَةٍ وَأَخْبَرَهُم بأَِنَّهُ سَيَأْتِي بَعَدَ هَذَا الْـخَصْبُ وَالرَّخَاءُ سَبْعَ سَنَواتٍ عِجَافٍ ِصعَابٍ على النَّاسِ يَأْكُلونَ مَا قَدَ ادَّخَرُوهُ مِنْ أَقْوَاتٍ ، حَتَّى تَنْفَضَّ الْـخَزَائِنُ، وَتَفْنَي الْـمُدَّخَرَاتُ، وَيَشْتَدَّ الكَرْبُ وَلاَ يَبْقَي إِلاَّ القَليِْلُ مِمَّا ادَّخَرُوهُ وََصانُوهُ مِنَ التَّلَفِ.

كَمَا أَخْبَرَ السَّاقِي بِأَنَّهُ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِيْنِ الْـمُجْدِبَةِ عَامٌ يَجِدُ فِيْهِ النَّاسٍ خَيْرًا كَثِيْرًا يُغِيْثُهُم مِمَّا كَانُوا فِيْهِ مِنْ جَدْبٍ وَّشِدَّةٍ ، عَامٌ يُعْصِرُونَ فِيْهِ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْصَرَ عِنْدَهُم مِنَ الفَوَاكِهِ وَالقَصَبَ وَالسِّمْسِّمِ وَغَيْرِهِ.

يُوْسُفُ يَرْفُضُ الْـخُرُوجَ مِنَ السَّجْنِ حَتَّى تَثْبُتَ بَرَاءَتُهُ عند الْـمَلِكِ:

وَرَجَعَ السَّاقِيَ إلى الْـمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ بِتَأْوِيْلِ رُؤْيَاهُ فَأُعْجِبَ بِالْـمُعَبِّر وَالتَّعْبِيْرِ ، وَوَقَرَ فِيْ قَلْبه أَنَّ مثل هَذَا العَالِم بِظَوَاِهرِ الأُمُورِ وَمَا تَؤُوُل إِلَيْهِ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ ، وَالْـخَبِيْرُ بِتَعْبِيْرِ الرُّؤَي - لاَ يَنْبِغِي أَنْ يَظَلَّ فِيْ سَجْنِهِ ، فَطَلَبَ مِنَ الْـمَلإِ أَنْ يَأْتُوا بِهِ لِيَسْمَعَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَيَعْرَفَ مِنْهُ حَقِيْقَةَ الأُمُورِ.

فَلَمَّا جَاءَهُ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلى سَيِّدِهِ فَيَسْأَله عَنِ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعَنَ أَيْدَيَهُنَّ وَمَا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنْ كَيْدٍ لَهُ وَمَكْرٍ به. فَرَجَعَ الرَّسُولُ إلى الْـمَلِكِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَاله يُوْسُفُ؛ فَازْدَادَ لَهُ حُبًا وَعَظَّمَهُ فِيْ نَفْسِهِ وَتَمَنَّى مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبه أَنْ يَرَاهُ.

الْـمَلِكُ يَتَحَقَّقُ مِنْ كَيْدِ النِّسْوَةِ :

جمَعَ الْـمَلِكُ النِّسْوَةُ وَمَعَهُنَّ امْرَأَةُ العَزِيْزِ وَلَمْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ قَاضِيًا يُحَقِّقُ فِيْ القَضِيَّةِ مِنْ جَدِيْدٍ ، لأَنَّهُ يَعْرِفُ كُلَّ شَيءٍ عَمَّا حَدَثَ لِهَذَا الفَتَي ، فَقَالَ لهنَّ : مَا شَأْنُكُنَّ؟ وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُنَّ ِإذْ رَاوَدْتُنَّ يُوْسُفُ عَنْ نَفْسِهِ ، طَالِبًا مِنْهُنَّ الإِقْرَارَ أَمَامَهُ بِمَا لاَ يَشُكُّ هُوَ فِيْه إِحْقَاقًا لِلْحَقِّ ، وإِبْطَالاً لِْلَبَاطِلِ، وَإِنْصَافًا لِلِمَظْلُومِ، وإِحْرَاجًا لِلظَّالِمِ وَعَبَّرَ لِلْمُسْتَمِعِيْنَ فِيْ سَاحَةِ الْـحُكْمِ َوقَطْعًا لِشَكِّ الْـمُرْتَابِيْنَ فِيْ بَرَاءَةِ يُوْسُفَ؛ فَأَجَابَ النِّسْوَةُ بِجَوَابٍ يُنَزِّهُ يُوْسُفَ عليه السلام مِنْ أَيّ مَسَاءَةٍ نُسِبَتّ إِلَيْهِ أَمَّا امْرَأَة العَزِيْزِ فَقَدْ أَقَرَّتْ بِجُرْمِهَا فِيْ صَرَاحَةٍ تَامَّةٍ وَشَجَاعَةٍ أَدَبِيَّةٍ نَادِرَةٍ وَأُسْلُوْبٍ يُنْبِيءُ عَنْ نَدَمِهَا وَتَوْبَتِهَا وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ ثَنَاءً عَطِرًا، وَاعْتَرَفَتْ أَنَّ النُّفُوسَ الْـمَرِيْضَةَ أمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وََرحْمَةُ اللَّهِ وَاِسعَةٌ وَهِيَ تَنْتَظِرُ مِنَ اللَّهِ العَفْوَ وَتَنْتَظِرُ مِنْ يُوْسُفَ الصَّفْحَ.

خُرُوْجُ يُوْسُفُ مِنَ السَّجْنِ وَتَوَلِّيَتِهِ شُؤُونِ الْـمَلِكِ:

وَخَرَجَ يُوْسُفُ مِنْ سَجْنِهِ مُعَزَّزًا مَكَرّمًا فِيْ مَوْكِبٍ َمهِيَبٍ إلى قَصْرِ الْـمَلِكِ ، فَلَمَّا جَلَسَ عِنْدَهُ تَجَاذَبَا أَطْرَافَ الْـحَدِيْثِ؛ فَشَهِدَ لَهُ الْـمَلِكُ بِالقُوَّةِ الْـحِسِّيَّةِ وَالْـمَعْنَوِيَّةِ وَالأَمَانَةِ فِيْ الدِّيْنِ وَالعِرْضِ وَأَسْلَمَ على يَدَيْهِ ! وَخَيَّرَهُ فِيْ الوَظِيْفَةِ الَّتِي يَشّغَلُهُا، فَاخْتَارَ يُوْسُفُ أَنْ يَتَوَلَّي خَزَائِنَ الأَرْضِ وَيَكُونَ مَسْؤُولاً عَنْ شُؤُونِ الزِّرَاعَةِ والتِّجَارَةِ؛ فَأَجَابَهُ الْـمَلِكُ إِلَى ذَلِكَ كَلِّهِ فِيْ سُرُوٍر، وَتَوَلَّي يُوْسُفُ شُؤُونَ الْـمُلْكِ، وَصَارَتْ الدُّنْيًا كُلَّهَا فِيْ قَبْضَتِهِ.

فَمَلَكَهَا بِيَدِيْهِ وَلَمْ يَمْلِكْهَا بِقَلْبه، وَعَاشَ فِيْ مِصْرَ مَلِكًا نَبِيًّا جَمَعَ اللَّهُ لأَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَي الدُّنْيَا وََالآخِرَة.

أَوَّلُ لِقَاءٍ لَهُ بِإِخْوَتِهِ بَعْدَ طُوْل غَيْبَتِهِ:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ لَهُ الْـمُلْكُ فِيْ مِصْرَ، وَاسْتَتَبَّ الأَمْرُ، وَعَمَّ الرَّخَاءُ، وَسَادَ العَدْلُ فِيْ الرَّعِيَّةِ، جَاؤُوا مِنْ بَادِيَةِ الشَّامِ يَطْلُبُونَ الْـمِيْرَةَ وَمَعَهُم مِنَ البِضَاعَةِ مَا لاَ يَفِيْ بِمَطَالبهم عِنْدَ اسْتِبْدَالِهَا. دَخَلُوْا عَلَيْهِ فِيْمَن دَخَلَ مِنْ أَهْلِ البِلاَدِ الْـمُجَاوِرَةِ وَالبَعِيْدَةِ؛ فَعَرَفَهُم فَقَرّبَهُم مِنْهُ وَسَأَلهم عَنْ حَالِهِمُ وَحَالِ أَبِيْهِم، فَأَخْبَرُوْهُ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ وَهُم لَهُ مُنْكِرُوْنَ لاَ يَعْرِفُوْنَهُ مَعَ أَنَّهُم لَـمَحُوْا فِيْهِ أَوْصَافَ الْـجَمَالِ. لَكِنَّهُم لَمْ يَتَصَوَرُوا -وَلَو لِلَـحْظَةٍ- أَنْ يُوْسُفَ الَّذِي أَلْقُوهُ فِيْ الْـجُبِّ قَدْ أَصْبَحَ مَلِكًا فِيْ قُطْرٍ وَاسِعٍ فَسِيْحٍ كَثِيرُ الْـخَيْرَاتِ وَله بَيْنَ الأقطار شَأْنٌ عَظِيْمٌ.

وَلَـمَّا أَكْرَمَهُم وََهَمُّوا بِالرَّحِيْلِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِم الأَرْزَاقَ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُم مِنْ أَبِيْكُم لِيَحْصُلَ مِنْ الْـمِيْرَةِ وَهَدَّدَهُم بِقَطْعِ الْـمِيْرَةِ عَنْهُم إِنْ لَمْ يَأْتٍوْا بِهِ مَعَهُم فَوَعَدُوهُ بِالْـمُحَاوَلَةِ.

وَقَدْ بَالَغَ يُوْسُفُ عليه السلام فِيْ إِغْرَائِهِم بِالرُّجُوْعِ إِلَيْهِ فَأَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَجْعَلُوَا بِضَاعَتَهُم الَّتِي جَاؤُوا بِهَا فِيْ رِحَالِهُم حَتَّى إِذَا وَجَدُوْهَا هَمُوْا بِردِّهَا . فَلِمَاذَا لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَمَعَهم أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) وَلَكِنْ كَيْفُ يَأذَنَ لَهُم أَبُوهُ وَقَدْ فَعَلُوْا بِيُوْسُفَ مِنْ قَبْلُ مَا فَعَلُوا؟ فَذَهَبُوا إِلَى أَبَيْهِم وَوَضَعُوهُ أَمَامَ الوَاقِعِ، وَحَمَّلُوهُ مَسْؤُولِيَّةِ جُوعِ أَهْلِهِ وَأَهْلَ بَلَدِهِ إِنْ هُوَ عََصي أَمْرَ الْـمَلِكِ. فقَالَوا: يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكَيْلُ، أَرْسِلْ مَعَنا أَخَانَا (بِنْيَامِيْنَ) لِكَي يَسْتَمِرَّ الْـمَدَدُ وَيَزْدَادَ الْـخَيْرُ، وَوَعَدُوهُ بِأَنْ يَحْفَظُوهُ وَيُحْسِنُوا إِلَيْهِ؛ فَذَكَّرَهُم يَعْقُوبُ عليه السلام بِمَا كَانَ مِنْهُم فِيْ شَأْنِ يُوْسُفَ وَلَكِنَّهُ أَسْنَدَ الأَمَرَ إِلَى اللَّهِ. وَطَلَبَ مِنْهُ الْـحِفْظَ وَالرَّحْمَةَ.

وَلَـمَّا فَتَحَ الأَبْنَاءُ مَتَاعَهُم وَجَدُوا بِضَاعَتَهُم قَد رُدَّتْ إِلَيْهِم فَقَوِيَتْ حُجَّتَهُم عَلَى أَبِيْهِم وقَالَوا: يَا أَباَنَا مَاذَا تُرِيْدُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَْو ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَمَعَنَا أَخُونَا فَسَوفَ نُوَسِّعَ عَلَى أَهْلِنَا، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيّرٍ، وَنَحْفَظُ أَخَانَا حَتَّى نَرُدَّهُ سَالِـمًا.

أُبُوهُم يُوصِيَهُم بِأَخْذِ الْـحَذَرِ مَعَ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ :

وَرَضِيَ الشَّيْخُ أَنْ يُسْلِمَ وَلَدَهُ (بِنْيَامِيْنَ) إِلَى إِخْوَتِهِ، وَلِكَنْ عَلَى مَضَضٍ وَاضْطِّرَارٍ ، وهُوَ فِيْ هَذِهِ الْـمَرَّةِ يَسْتَوْثِقُ مِنْهُم بِمِيْثَاقُ غَلِيْظٍ أَنْ يَرُدُوه إِلَيْهِ مَا دَامُوا قَادِرِيْنَ عَلَى الرَّدِّ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ {پلَّهٍ عّلّى" مّا نّقٍولٍ $ّكٌيلِ} (سورة يوسف، الآية 66)

وقَالَ كَمَا جَاءَ فِيْ القُرْآنِ عَنْهُ {فّاللَّهٍ خّيًرِ حّافٌظْا $ّهٍوّ أّرًحّمٍ پرَّاحٌمٌينّ} (سورة يوسف، الآية 64)

وَخَرَجَ يُوَدِّعُ أَبْنَاءَهُ الأَحَدَ عَشَرَ إِلَى وَجْهِ الطَّريق وهُوَ يَخْشَي عَلَيْهِم جَمِيْعًا مِنَ الْـحَسَدِ أَوِ الْـحِصَارِ أَوِ الأَسْرِ ، وَذَكَّرَهُم بِاللَّهِ وَوَعَظَهُم وَعْظًا بَلِيْغًا، فَحَفِظُوا الَوَصِيَةَ وَمَعَهُم أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) يَنْعَمُ بِعَطْفِهِم وَرِعَايَتِهِم لأَنَّهُم لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ مَا يَحْسِدُونَه عَلَيْهِ. وَانْتَهَي بِهِمُ الْـمَسِيْرُ إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ دَخَلُوْهَا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ كَمَا أَوْصَاهُم واَلدُهُم.

اللِّقَاءُ الثَّانِي:

وَلَـمَّا جَاءَهُم الإِذْنُ بِالدُّخُولِ فَدَخَلُوا - بَدَأَ بَأَخِيْهِ بِنْيَامِيْنَ فَحَيَّاهُ وَعَانَقَهُ، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَخَصَّهُ بِمَا لَهُ مِنَ التَّكْرِيْمِ ، لاَ لأَنَّهُ شَقِيقَهُ فَحَسْبٍ وَّلَكِنْ لأَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا صَدَرَ مِنْ ِإخْوَتِهِ بَلْ كَانَ أَقْرَبَ شَبهًا بِهِ وَبِأَبِيهِ .

رَأَى يُوسُفُ عليه السلام أَمَارَاتِ الْـحُزْنِ وَالأَسَي بَادِيَةً عَلَى شَقِيقِهِ ، فَشَارَكَهُ بِنَفْسِهِ طَعَاَمَهُ وَشَرابَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَه عَلَى فِرَاشِهِ وَجَاذَبَهُ أَطْرَافَ الْـحَدِيْثِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَزَالُ يُعَانِي مِنْ الْكَرْبِ وَلاَ يَزَالُ يَأَسَفُ عَلَى فِرَاقِ شَقِيقِهِ يُوسُفَ ، أَفْصَحَ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ هُوَ يُوسُفُ.

فَفَرِحَ بِنْيَامِيْنُ فَرَحًا لَمْ يَفْرَحْ مِثْلَهُ قَطٌّ، وَتَبَدَّدَ حُزْنُهٌ وَزَالَ هَمُّهُ وَأَحَسَّ بِالأَمَانِ.

احْتِيَالُهُ فِيْ ضَمِّ أَخِيْهِ إِلَيْهِ :

وقد طَمِعَ بِنْيَامِيْنُ فِيْ البَقَاءِ مَعَ أَخِيْهِ، وطَمِعَ يُوْسُفُ فِيْمَا طَمِعَ فِيْه أَخُوْهُ فَفَكَّر فِيْ حِيْلَةٍ بِهَا تَتَحَقَّقُ رَغْبَتَهُ تَتَمَثَّلُ فِيْ وَضْعِ السِّقَايَةِ فِيْ رَْحِل أَخِيْهِ قَبْل انْصِرَافِهِ مِنْ مِصْرَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ مُؤَذِّنًا يُنَادِي فِيْ الْعِيْرِ {إنَّكٍمً لّسّارٌقٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 70) فَإِذَا مَا سَمِعُوا هَذِهِ الْـمَقُولَةَ فَسَيَعُودُونَ حَتْمًا إِلَى سَاحَةِ يُوسُفَ عليه السلام لإِثْبَاتِ بَراءِتِهِم فَيَبْدَأُ يُوْسُفُ فِيْ التَّفْتِيْشِ عَنِ السِّقَايَةِ أَيّ (الصُّوَاعِ) بِأَوعِيَتِهِمُ ثُمَّ يُفَتِّشُ وِعَاءَ أَخِيْهِ بِنْيَامِيْنَ فيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ السِّقَايَةَ ، فَيَكُونَ بِذَلِكَ قَدْ جَازَ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُ عِنْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْضِي شَرِيْعَةُ يَعْقُوْبَ عليه السلام (فَإِن السَّارَقَ يُسْتَرَقُّ) فَيَكُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يَعِيْشَ عِنْدَ الْـمَسْرُوقِ مِنْهُ عَبْدًا رَقِيْقًا يَتَصَرَّفُ فِيْه كَيْفَ شَاءَ .

فَلَمَّا رَأَى الإِخْوَةُ السِّقَايَةَ قَد اسْتُخْرِجَتْ مِنْ رَحْلِ بِنْيَامِيْنَ سُقِطَ فِيْ أَيْدِيْهِمُ، وَتَحَرَّكَتِ الأَحْقَادُ القَدِيْمَةُ فِيْ قُلُوْبِهِمُ {قّالٍوا إن يّسًرٌقً فّقّدً سّرّقّ أّخِ لَّهٍ مٌن قّبًلٍ فّأّسّرَّهّا يٍوسٍفٍ فٌي نّفًسٌهٌ} (سورة يوسف، الآية: 77)، وََوقَعَتْ هَذِهِ الْـمَقَالَةُ مِنْ نَفْسِ يُوْسُفَ عليه السلام مَوْقِعًا آلَـمَهُ وَأَحْزَنَهُ لَكِنَّهُ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وطَمِعَ الإِخْوَةُ فِيْ إِحْسَانِ يُوسُفَ عليه السلام وهُوَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمُ أَخَاهُم، ويَأْخُذَ مِنْهُم مَنْ يَشَاءُ عِوضًا عَنْهُ رَحْمَةً بِأَبِيْهِم الشَّيْخِ الكَبِيْرِ.

فَقَالَ يُوْسُفُ: {قّالّ مّعّاذّ پلَّهٌ أّن نَّأًخٍذّ إلاَّ مّن $ّجّدًنّا مّتّاعّنّا عٌندّهٍ إنَّا إذْا لَّظّالٌمٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 79)

وَلَـمَّا بَلَغَ مِنْهُم اليَأْسُ مَبْلَغًا بِسَبَبِ اسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ مِمَّا طَلَبُوهُ، فَلَـمَّا قَطَعُوا الأَمَلَ مِنْ أَخْذِ بِنْيَامِيْنَ ، اِجْتَمَعُوا بَعِيْدًا عَنِ النَّاسِ يَتَنَاجَوْنَ فِيْ أَمْرِهِم هَذَا ، فَقَالَ لَهُم كَبِيْرُهُم : أَنَسِيْتُم أَنَّ أَبَاكُم قَد أَخَذَ عَلَيكُم مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَنْ تَأْتُوهُ بِابْنهِ سَالـِمًا؟ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطُتُم فِيْ يُوسُفَ؟

أَيّ: هَلْ نَسِيْتُم مَا فَعَلْتُوهُ بيُوْسُفَ مِنَ قَبْلُ؟ فَكَيْفَ تُوَاجِهُونَ أَبَاكُم؟ وَبِمَاذَا تَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْهِ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ وَقْعُ الْـخَبْرِ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنْ هَمْسٍ وَمُشَافَهَةٍ ، وَأَخْذٍ وَرَدٍّ .

قَالَ كَبِيْرُهُم {فّلّنً أّبًرّحّ الأّرًضّ حّتَّى" يّأًذّنّ لٌي أّبٌي أّوً يّحًكٍمّ پلَّهٍ لٌي $ّهٍوّ خّيًرٍ پًحّاكٌمٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 80).

مَوْقِفُ أَبِيْهِم بَعْدَ سَمَاعِ الْـخَبَرِ :

وَمَا كَادَ يَعْقُوبُ عليه السلام يَسْمَعَ مِنْ أَبْنَائِهِ هَذَا الْـخَبَرَ الْـمُؤْلِمَ حَتَّى وَاجَهَهُم بِمَا وَاجَهَهُم بِهِ فِيْ الْـمَرَّةِ الأُولَى حِيْنَ جَاءُوهُ يُلْقُونَ إِلَيْهِ بَالْـخَبَرِ الْـمُفْجِعِ فِيْ يُوسُفَ فَقَالَ لَهُم: { بّلً سّوَّلّتً لّكٍمً أّنفٍسٍكٍمً أّمًرْا فّصّبًرِ جّمٌيلِ عّسّى پلَّهٍ أّن يّأًتٌيّنٌي بٌهٌمً جّمٌيعْا إنَّهٍ هٍوّ پًعّلٌيمٍ پًحّكٌيمٍ <٣٨> $ّتّوّلَّى" عّنًهٍمً $ّقّالّ يّا أّسّفّى" عّلّى" يٍوسٍفّ $ّابًيّضَّتً عّيًنّاهٍٍ مٌنّ پًحٍزًنٌ فّهٍوّ كّظٌيمِ} (سورة يوسف، الآيتان : 83 - 84)،

وَانْصَرَفَ عَنْهُم بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ ، وَقَالَ فِيْ لَوْعة وَأَسَي {يّا أّسّفّى" عّلّى" يٍوسٍفّ} فَقَد كَانَ يَعْقُوبُ عليه السلام يَرَى أَنَّ يُوسُفَ هُوَ قُرَّةُ عَيْنِهِ وَثَمَرَةُ حَيَاتِهِ وَوَارِثُ عِلْمِهِ ، وَمُجَدِّدُ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ .

لِذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ أَبَدًا وَالبُكَاءُ لاَ يُنَافِي الصَّبْر، بَلْ هُوَ وَسِيْلَةٌ مِنْ الوَسَائِلِ الَّتِي تُعِيْنُ عَلَيْهِ .

إِذْ بِهِ يُفْرِغُ الْـمَرْءُ مَا فِيْ قَلْبِهِ مِنْ أَسَي وَيَتَخَلَّصُ مِنَ العُقَدِ الْـمُتَرَاِكَمَةِ عَلَى الصَّدْرِ فَيَتَّسِعُ وَيَسْتَرِيْحُ .

وَقَد بَكَي سَيِّدُنَا مُحَمَّدٍ [ عَلَى فِرَاقِ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيْمَ وَبَكَى عَلَى مَوْتِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ.

وَقَالَ أَوْلادُهُ: بَلْ وَأَقْسَمُوْا بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ وَالِدَهُم أَنَّهُ يَظَلَّ يَذْكُرُ يُوسُفَ، وَيَبْكِيَ عَلَى فِرَاقِهِ حَتَّي الْـمَوْتِ كَمَدًا وَحَسرَةً ، فَرَدَّ عَلَيْهِم وَالِدُهُم {قّالّ إنَّمّا أّشًكٍو بّثٌَي $ّحٍزًنٌي إلّى پلَّهٌ $ّأّعًلّمٍ مٌنّ پلَّهٌ مّا لا تّعًلّمٍونّ} (سورة يوسف، الآية : 86).

وَالْبَثُّ هُوَ : الهَمُّ وَالْكَرْبُ الَّذِي يَغْلِبُ صَاحِبَهُ فَلاَ يَتَّسِعُ لَهُ صَدْرُهُ، فَيُصَرِّحُ بِهِ وَيُلْقِيْهِ خَارِجَهُ ، وَهَذَا نُوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ ، ِإنَّ اللُّجُوءَ إِلَى اللَّهِ وَالْهِتَافِ بِهِ وَالشَّكْوَي إِلَيْهِ وَالتَّوجُّعُ لَهُ هُوَ مِنْ الإِيْمَانِ بِاللَّهِ وَالثِّقَةِ فِيْهِ.

وَأَرْشَدَهُم إِلَى مَا هُوَ الأَهَمِّ لَهُ وَلَهُم فَقَالَ : {يّا بّنٌيَّ عليه السلام ذًهّبٍوا فّتّحّسَّسٍوا مٌن يٍوسٍفّ $ّأّخٌيهٌ $ّلا تّيًأّسٍوا مٌن رَّوًحٌ پلَّهٌ إنَّهٍ لا يّيًأّسٍ مٌن رَّوًحٌ پلَّهٌ إلاَّ پًقّوًمٍ پًكّافٌرٍونّ} (سورة يوسف، الآية : 87).

اللِّقَاءُ الْـحَاسِمُ بَيْنَ يُوْسُفَ وَإِخْوَتِهِ :

امْتَثَلَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ أَمَرَ أَبَيْهِم، فَارْتَحَلُوْا إِلَى مِصْرَ يَتَحَسَّسُوْنَ الْـخَبَرَ؛ فَأَقْبَلُوا إِلَى البَيْتِ الَّذِي فِيْهِ أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) فَدَخَلُوْا عَلَى يُوْسُفَ وَهُم يَطْمَعُوْنَ فِيْ سَخَائِهِ وَعَفْوِهِ عَنْ أَخِيْهِم، فَجَلَسُوْا عِنْدَهُ وَأَخَذُوْا يَسْتَعْطِفُونَهُ بِأُسْلُوْبٍ غَايَةٍ فِيْ الْـمُلاَطَفَةِ وَالإِسْتِجْدَاءِ وَقَالَوْا لَهُ:

{يّا أّيٍَهّا پًعّزٌيزٍ مّسَّنّا $ّأّهًلّنّا پضٍَرٍَ $ّجٌئًنّا بٌبٌضّاعّةُ مٍَزًجّاةُ} (يوسف، الآية: 88)، (وَمُزْجَاة): أَي رَدِيْئَةٍ، وَاعْتَذَرُوْا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرُوهُ بِقِلَّةِ الْبِضَاعَةِ وَرَدَاءَتِهَا ، وَلَـمَّا سَمِعَ يُوْسُفُ عليه السلام مَقَالَتَهُم رَقَّ لَهُم وَدَنَا مِنْهُم وَأَخَذَ يُوَاسِيْهُم بِحَدِيْثِهِ الْعَذْبِ حَتَّى كَادُوْا يَسْأَلُوْنَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَا سَبَبُ اهْتِمَامِكَ بِنَا وَبِأَهْلِنَا ؟ وَتَحّمِلُنَا عَلَى أَنْ نُحْضَرَ لَكَ أَخَانَا الَّذِي تَخَلَّفَ عَنَّا ؟ ثُمَّ هَا هُوَ يُصْبِحُ رَهِيْنَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ ؟ قَالَ {هّلً عّلٌمًتٍم مَّا فّعّلًتٍم بٌيٍوسٍفّ $ّأّخٌيهٌٌ} (سورة يوسف، الآية 89).

وَهُنَا تَحَوَّلَ الشَّكُ إِلَى يَقِيْنٍ عِنْدَهُم فَقَالُوْا مَعًا {قّالٍوا أّئٌنَّكّ لأّنتّ يٍوسٍفٍ قّالّ أّنّا يٍوسٍفٍ $ّهّذّا أّخٌي قّدً مّنَّ پلَّهٍ عّلّيًنّا إنَّهٍ مّن يّتَّقٌ $ّيّصًبٌرً فّإنَّ پلَّهّ لا يٍضٌيعٍ أّجًرّ پًمٍحًسٌنٌينّ} (سورة يوسف، الآية 90).

وَلَـمَّا اِسْتَيْقَنُوْا أَنَّ العَزِيْزَ الَّذِي غَمَرَهُم بِعَطْفِهِ هُوَ الَّذِي كَادُوْا لَهُ مِنْ قَبْلُ كَيْدًا أَمْلاَهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِم. اِعْتَرَفُوْا لَهُ بِالفَضْلِ وَاِعْتَذَرُوْا عَنْ خَطَايَاهُم الَّتِي اِرْتَكَبُوهَا فِيْ حَقِّهِ وَحَقِّ أَخِيْهِ وَحَقِّ أَبَيْهِ قَالُوْا: {تّاللَّهٌ لّقّدً آثّرّكّ پلَّهٍ عّلّيًنّا} (سورة يوسف، الآية 90)، لَقَدْ فَضََّلَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالعِلْمِ وَالْـحِلْمِ، وَالْـمُلْكِ {$ّإن كٍنَّا لّخّاطٌئٌينّ} فِيْمَا فَعَلْنَا بِكَ، فَقَد أَسَأْنَا بِفِعْلِنَا هَذَا إِسَاءَةً بَالِغَةً لاَ نَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا العَفْوَ، فَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَهَذَا خُلُقٌ قَدْ حَلاَّكَ اللَّهُ بِهِ وَمَيَّزَكُ بِهِ عَنَّا وَقَد صَرَّحَ لَهُم يُوسُفُ عليه السلام بِالصَّفْحِ وَالعَفْوِ عَنْهُم وَدَعَا لَهُم بِالْـمَغْفِرَةِ لِيَطْوِيَ بِذَلِكَ صَفَحَاتِ الْـمَاضِي الْبَغِيْضِ، وَيَفْتَحَ لِلْحَاضِرِ وَالْـمُسْتَقْبَلِ صَفَحَاتٍ ِّملْؤُهَا الْـحُبِّ وَالوَفَاءِ ، وَمِدَادُها الأَمْنُ والرخاء ، وَأمَرَهُم أَنْ يَذْهَبُوا بِقَمِيْصِهِ وَقَدْ أَعْطَاهُم إيَّاهُ إِلَى أَبِيْهِ الَّذِي طَالَ صَبْرُهُ الْـجَمِيْلُ لِيُلْقُوْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَِصيْرَ بِهِ بَصِيْرًا، وَأَمَرَهُم أَنْ يَجِيْئُوهُ بِأَهْلِهِِ أَجْمَعِيْنَ؛ لِيَعِيْشُوْا فِيْ ظِلِّهِ آمِنِيْنَ إِلَى مَا شَاءَ اللُّه عَزَّ وَجَلَّ .

وَلقَدْ كَثُرَتِ الرِّوَايَاتُ حَولَ القَمِيْصِ فَقِيْلَ : إِنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيْم عليه السلام ، نَزلَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَيْهِ مَنَ الْـجَنَّةِ حِيْنَ أُلْقِيَ فِيْ النَّارِ فَوَرِثَهُ إِسْحَاقُ ثُمَّ وَرِثَهُ يَعْقُوبُ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَعْقُوبُ فِيْ عُنُقِ يُوسُفَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخرَ، فَالْقَمِيْصُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِخَوَتُهُ مُلَطَّخًا بِدَمٍ كَذِبٍ . وَالأََصحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الأَقْمِصَةِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُهَا وَ الَّتِي عَلِقَ بَهَا عَرَقُهُ فَكَانَ فِيْهَا رِيْحُ يُوسُفُ عليه السلام .

رُجُوعِ الإِخوة إِلَى أَخِيْهِم بِالْبِشَاَرةَِ :

وَخَرَجَ الإِخْوَةُ مِنْ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ جَهَّزَهُم يُوسُفُ عليه السلام بِجِهَازِهِم ، فَمَا كَانَ مِنْ يَعْقُوبَ عليه السلام إِلاَّ أَنْ أَحَسَّ رِيْحَ حَبِيْبِهِ وَمَالِكِ قَلْبِهِ فَأَخْبَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ فأََنْكَرُوْا عَلَيْهِ وَلَم يَثِقُوا فِيْ كَلاَمِهِ وَأَقْسَمُوْا بِاللَّهِ ِإنَّهُ لَفِيْ ضَلاَلِهِ القَدِيْمِ (وَالْـمُرَادُ بِالضَّلاَلِ هُنَا الْـحُبِّ الشَّدِيْدِ لِيُوْسُفَ وَالتَّعَلُّقِ البَالِغِ بِهِ) وَلَبِثَ يَعْقُوبُ عليه السلام أَيَّامًا كَأنَّهَا سَنَوَاتٍ يَتَرَقَّبُ وُصُولَ خَبَرِ يُوْسُفَ عليه السلام حَتَّى جَاءَ البَشِيْرُ وَهُوَ اِبْنُهُ يَهُوذَا الَّذِي يَحْمِلُ الْقَمِيْصَ مِنْ يُوْسُفَ وَهُوَ الَّذِي حَمِلَ إِلَيْهِ قَمِيْصَهُ الْـمُلَطَّخِ بِالدَمِ الكَذِبِ لِيَمْحُو السَّيِّئَةَ بَالْـحَسَنَةِ؛ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا أَمَرهُ يُوْسُفُ عليه السلام فَعَادَ إِلَى الشَّيْخِ بَصَرُهُ، فَأَبْصَرَ مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْهُ ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ، وَزَالَ عَنْهُ حُزْنُهُ، وَفَرِحَ بِقُرْبِ لِقَائِهِ بِحَبِيْبِهِ وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ، وَبِقُرْبِ جَمْعِ الشَّمْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ جَمِيْعًا فِيْ مِصْرَ.

وَشِفَاءُ سَيِّدَِنا يَعْقُوبَ بِوَضِْع الْقَمِيْصِ عَلَى وَجْهِهِ مُعْجِزَةً مِنْ الْـمُعْجِرَتِ الْـخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا إِرَادَةُ اللَّهِ الْـمُنْحَصِرَةِ فِيْ (كُنْ فَيَكُوْنُ) وَكَمَا أَنَّ رَدَّ بَصَرِ يَعْقُوبَ هِيَ مُعْجِزَةٌ .. كَانَ شَمُّهُ لِرِيْحِ يُوسُفَ عَلَى بُعْدٍ شَاسِعٍ أَيْضًا مُعْجِزَةً .. وَلَـمَّا شُفِيَ يَعْقُوبُ عليه السلام مِنْ مَرَضِهِ، وَحَلَّ عَنْهُ الْـحُزْنُ وَالهَمُّ ، أَجَابَ مَنْ لاَمُوهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ مِنْ رَّبِّهِ بِصِدْقِ مَا كَانَ قَالَهُ لَهُم حِيْنَ (فَصَلَتِ الْعِيْرُ) وَهَذَا هُوَ الَوقْتُ الْـمُنَاسِبُ لِلْجَوَابِ قَالَ لَهُم مُقَرِّرًا صِدْق قَوْلِهِ : {أّلّمً أّقٍل لَّكٍمً إنٌَي أّعًلّمٍ مٌنّ پلَّهٌ مّا لا تّعًلّمٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 96)، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشْكُّوا فِيْ شَيءٍ مِمَّا ذَكَرْتُهُ لَكُم لأَنِّي نَبِيٌّ يُوْحَى إِلَيَّ.

أَبْنَاؤُهُ يَطْلُبُوْنَ مِنْهُ الصَّفْحَ وَالْـمَغْفِرَةَ:

وَأَدْرَكَ أَْولَادُهُ مَعْنَي هَذَا العِتَابَ الْـمُهَذَّبَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَي الْـحِلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْـحِكْمَةِ، وَالثِّقَةِ القَوِيَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُسْنِ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ أَوَّلاً وَمَعَ أَبْنَائِهِ، وَمَعَ النَّاسِ جَمِيْعًا فِيْ عَصْرِهِ.

كَمَا أَحَسُّوْا بِأَنَّهُ قَد طَابَتْ نَفْسُهُ، وَسُرَّ فُؤَادُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ حُزْنُهُ وَهَمُّهُ فَسَأَلُوْهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُم َوَيَصْفَحَ عَنْهُم {قّالٍوا يّا أّبّانّا عليه السلام سًتّغًفٌرً لّنّا ذٍنٍوبّنّا إنَّا كٍنَّا خّاطٌئٌينّ<٧٩> قّالّ سّوًفّ أّسًتّغًفٌرٍ لّكٍمً رّبٌَي إنَّهٍ هٍوّ پًغّفٍورٍ پرَّحٌيمٍ} (سورة يوسف، الآيتان: 97 - 98).

دُخُولُ أَهْلِ يُوْسُفَ عَلَيْهِ وَتَحْقِيقِ رُؤْيَاهُ:

وَتَهَيَّأ َيَعْقُوبُ عليه السلام وَمَعَهُ أَبْنَاؤُهُ وَسَائِرُ أَهلِهِ لِلِقَاءِ عَزِيْزِهُم الَّذِي أَعَزَّهُ اللَّهُ بِالنِّبُوَّةِ وَالْـمُلْكِ وَالعِلْمِ وَالْـحِكْمَةِ ، فَلَـمَّا تَكَامَلَ عَدَدُهُم وَانْتَظَمَ عِقْدُهُم شَدُّوْا الرِّحَال إِلَيْهِ مُسْرِعيْنَ وَقُلُوبُهُم تَسْبِقَ رِحَالَهُم إِلَى هَذَا اللِّقَاءِ.

وَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام يَتَرَقَّبُ هَذَا اللِّقَاءَ فِيْ لَهْفَةٍ وَّشَوْقٍ وَخَرَجَ إِلَى اِسْتَقْبَالِهُم إِلَى حُدُودِ مِصْرً وَنُصَبَ لَهُ هُنَاكَ بَيْتًا وَجِيْهًا يَسْتَقْبِلَهُم فِيْهِ فَلَـمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ تَلَقَّاهُم بِقَلْبِهِ وَقَالَبهِ وَحَيَّاهُم أَحَسنَ تَحِيَّةً، وَبَدَأَ بِأَبَوَيْهِ فَضَمَهُمَا إِلَيْهِ وَعَانَقَهُمَا طَوِيْلاً وَبَالَغَ فِيْ بِرِّهُمَا وَالإِحْسَانِ إليهما فِيْ الْـمَقَالِ.

وَأَذِنَ لَهُمَا وَلِسَائِرَ أَهْلِهِ بِالدُّخُولِ فِيْ أَرْضِ مِْصرَ آمِنِيْنَ عَلَى أَنْفُسِهِم لاَ يَخَافُون بَأْسًا وَلاَ يَخْشَوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ {$ّقّالّ عليه السلام دًخٍلٍوا مٌصًرّ إن شّاءّ پلَّهٍ آمٌنٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 99) .

وَكَانَتْ أُمُّهُ (رَاحِيْلُ) قَدْ مَاتَتْ مِنْ زَمَنٍ بَعِيْدٍ، وَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَ وَالِدِهِ هِيَ خَالَتَهُ (لَيْئَة) .

وَعِنْدَمَا رَأى يُوسُفُ عليه السلام إِخْوَتَهُ سَجَدُوا لَهُ وَمَعَهُم أَبَوَاهُ تَذَكَّرَ رُؤْيَاهُ، وَذَكَّرَ أَبَاهُ بِهَا :

{$ّرّفّعّ أّبّوّيًهٌ عّلّى پًعّرًشٌ $ّخّرٍَوا لّهٍ سٍجَّدْا $ّقّالّ يّا أّبّتٌ هّذّا تّأًوٌيلٍ رٍءًيّايّ مٌن قّبًلٍ قّدً جّعّلّهّا رّبٌَي حّقَْا $ّقّدً أّحًسّنّ بٌي إذً أّخًرّجّنٌي مٌنّ پسٌَجًنٌ $ّجّاءّ بٌكٍم مٌَنّ پًبّدًوٌ مٌنً بّعًدٌ أّن نَّزّغّ پشَّيًطّانٍ بّيًنٌي $ّبّيًنّ إخًوّتٌي إنَّ رّبٌَي لّطٌيفِ لٌَمّا يّشّاءٍ إنَّهٍ هٍوّ پًعّلٌيمٍ پًحّكٌيمٍ} (سورة يوسف، الآية: 100)
َ
بعْدَ ذَلِكَ اتَّجَهَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَد نَزَعَ نَفْسَهُ مِنَ اللِّقَاءِ وَالعِنَاقِ وَالفَرْحَةِ وَالبَهْجَةِ وَالْـجَاهِ وَالسٍّلْطَانِ وَالرَّغَدِ وَاتَّجَهَ إِلَى رَبِّهِ فِيْ تَسْبِيْحِ الشَّاكِرِ الذَّاكِرِ بِدَعْوَةِ جَمَعَ فِيْهَا لِنَفْسِهِ خَيْرَيّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

{رّبٌَ قّدً آتّيًتّنٌي مٌنّ پًمٍلًكٌ $ّعّلَّمًتّنٌي مٌن تّأًوٌيلٌ الأّحّادٌيثٌ فّاطٌرّ پسَّمّوّاتٌ $ّالأّرًضٌ أّنتّ $ّلٌيٌَي فٌي پدٍَنًيّا $ّالآخٌرّةٌ تّوّفَّنٌي مٍسًلٌمْا $ّأّلًحٌقًنٌي بٌالصَّالٌحٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 101).

تَوْضِيْحٌ :(السُّجُودُ هُنَا تَحِيَّةٌ) ، وَالسُّجُودُ عِبَارَةٌ عِنْ إِنْحِنَاءِ القَامَةِ فَذَاكَ للَّهِ وَحْدُهْ وَلَيْسَ هُوَ وَضْعُ الْـجَبْهَةِ عَلَى الأَرْضِ.

مَكْرُ إخْوةُ يُوسُفَ بِهِ وَتآمُرِهِم عَلَيْهِ

يَذْكُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أُخْوَةَ يُوسُفَ قَدْ حَقَدُوا عَلَيْهِ وَحَسَدُوهُ على حُبِّ أَبِيهِ إيَّاهُ، وَعلى مَا أُوْتِي مِنْ عِلْمٍ وَجَمَالق وَجَلاَلٍ، فَأْتَمُروا على قَتْلِهِ أَوْ إِبْعَادِهِ عَنْ أَبِيْهِ فِيْ أَرْضِ بَعِيْدَةٍ، لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ مِنْهَا إِلَيْهِ.. لَكِنَّهُم لَمْ يَتَّفِقُوا جَمِيعًا على ذلك، ولاَ طَرْحُهُ فِيْ أَرْضٍ بَعِيْدَةٍ..

فَأشَارَ عَلَيْهِم بِإلْقَائِهِ فِيْ غَيَابِةِ الْـجُبِّ لِيَلْتَقِطَهُ الْـمُسَافِرُونَ، وَيَذْهَبُوا بِهِ بَعِيْدًا.

وَأَجمَعُوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيْ أَعْمَاقِ الْـجُبِّ، وَهُوَ بِئْرٌ عَمِيقٌ غَائِرُ الْـمَاءِ، وَانتَظَرَ يُوسُفُ الفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، وهُوَ فِيْ ذَلِكَ الْـجُبِّ الْـمُوحِشِ.

وَظَلَّ يُوسُفُ فِيْ الْـجُبِّ حَتَّى جَاءَتْ قَافِلَةٌ تِجَارِيَّةٍ، فَحَطُّوا رِحَالهم بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَانِ الْـجُبِّ، وَأرْسَلُوا مِنْ يَأْتِيْهِم بِالْـمَاءِ مِنَ البئْرِ.. فَأَدْلَى دَلْوَهُ فِيْهِ فَتَعلَّقَ يُوسُفُ به.

فَلَمَّا رَآهُ السَّاقِي طَارَ فَرَحًا، وَاسْتَبْشَرَ خَيْرًا، وَأَخْفَاهُ مَعَ رِفَاقِهِ، وَانْطَلَقُوا بِهِ إلى مِصْرَ حَيْثُ بَاعُوهُ هُنَاكَ لِرَئِيْسِ الْـجُنْدِ وَأَمِيْرِ الْـخِزَانَةِ، وَهُوَ مَا يُلَقَّبُ بِالعَزِيْزِ، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُم بِثَمَنٍ بَخْسٍ (بِخَمْسِ دَرَاهِمٍ).

وَانْطَلقَ العَزِيْزُ بِيُوسُفَ إلى بَيْتِهِ فَرِحًا، وشَاركَتْهُ امْرَأتُهُ فَرْحَتَهُ، فَقَالَ لَها: أَحْسِنِي إلَيْهِ فِيْ كُلِّ شَيءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَعَسى أَنْ يَنْفَعَنَا فَإِنِّي أَرَى فِيْهِ مِنَ النَّجَابَةِ وَالذَّكَاءِ وَسِعَةِ الإدْرَاكِ وبُعدِ النَّظَرِ مَا يُؤَهِلُّه لِذَلِكَ.

مِحْنَتَهُ مَعَ امْرَأةِ العَزِيْزِ:

وَعَاشَ يُوسُفُ فِيْ بيْتِ العَزِيْزِ زَمَنًا لاَ يَجِدُ مِنْهُ وَلاَ مِنْ زَوْجَتِهِ إلاَّ الْـحُبَّ والإِجلاَلِ وَالتَّقْدِيْرِ، حَتَّى سَوَّلَ الشَّيْطَانُ لامْرَأةِ العَزِيْزِ أَمْرًا مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقعَ مِنَها أو يَصْدُرَ عَنْهَا، فَقَد رَاوَدتْهُ عَنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَأْبَى وَيَعْتَصِمُ بِاللِّهِ.

وَقَد بَلَغ بِهَا الْـحُبُّ مَبْلَغَهُ، وَافْتُتَنَتْ بِجَمَالِهِ، وَضَاقَتْ ذَرْعًا بِتَعفُّفِهِ وَاسْتِعْصَامِهِ، فَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ عَلَيْهِ وَخَلَتْ به، وقَالَت: أَنَا قَدْ تَهَيَّأْتُ لَكَ!

فَالْتَفَتَ إلى السَّمَاءِ وَهِي قِبْلَةُ الدَّاعِي يَلْتَمِسُ النَّجَاةَ مِنْ أَشْنَعِ عَمَلٍ أَنْكَرَتْهُ الأَدْيَانُ السَّمَاوِيَّةُ، فَقَال لَهَا: مَعَاذَ اللَّهِ، ووَعَظَهَا وَعْظًا بَلِيغًا.

وَلَكِن عَزَّ عَلَيْهَا أَنْ يَرْفُضَ وَهِيَ ذَاتُ الْـحَسَبِ وَالْـمَنْصِبِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْـخَادِمِ، فَهَمَّتْ بِضَرْبه، فَهمَّ بِضَرْبِهَا إنْ ضَرَبَته..

وَقَد رَأَى بِنُورِ اللَّهِ أَنْ يَفِرَّ مِنْ وَجْهِهَا إلى البَابِ الْـخَارِجِيِّ، فَأَسْرَعَتْ خَلَفَهُ لِتَردَّهُ إِلَيْهَا ..

وَقَدْ قَدَّت قَمِيْصَهُ مِنْ دُبُرٍ فَقَطَعَتْهُ طُولاً مِنْ أَعْلَى إلى أَسْفَلَ، ولَكِنَّهُ مَضَى إلى البَابِ فَفَتَحَهُ، فَإِذَا بِالعَزِيْزِ عِنْدَهُ فَرَأَى مَا هَاله وَأَدْهَشَهُ؛ فَأَسْرَعتْ إِلَيْهِ تَشْكُوا يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَشْكُوهَا إِلَيْهِ.

وقَالَت: لاَ أَرَى إلاَّ أنَّ تَسْجِنَ هذَا الْـخَائِنَ أو تُعَذِّبَهُ.

مَا كَانَ مِنْ يُوسُفَ عليه السلام إلاَّ أَنْ وَقَفَ مَوْقِفَ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ، وَشَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَالَ: هِي رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وَأَنَا تَمَنَّعْتُ وَتَعَفَّفْتُ وَاعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ.

نَظرَ العَزِيزُ فِيْ القَمِيْصِ فَعَرفَ بَرَاءةَ يُوسُفَ، فَزَجَرَ امْرَأتَهُ وَجَعلَهَا مَنْ عَامَّةِ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَتَنَزَّهَنَّ عَنِ الْكَيْدِ والْـمَكْرِ، وَقَدْ وَاسَى يُوسُفُ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَأَوصَاهُ أَنْ يَصْرِفَ النَّظَرَ عَمَّا وَقَعَ لَهُ مِنْ اَمْرَأتِهِ.. وَأَمَرَهَا أَن تَسْتَغْفِر اللَّهَ.

مَكرُ النِّسْوَةِ بِامْرَأةِ العَزِيْزِ:

إِنَّ النِّسَاءَ مَعْرُوفَاتٍ بِالثَّرْثَرةِ وَكَثْرَةِ النَّجْوَى، وَالْـخَدُمُ جَوَاسِيْسٌ على أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِذَا عَرِفُوا شَيْئًا مَلأَوا بِحَدِيْثِهِ البِقَاعَ.. وَلِهَذَا شَاعَ الْـخَبَرُ وَتَنَاَقَلَتْهُ النِّسْوَةُ حَتَّى انْتَهَى حَدِيْثُهُنَّ، وَجَهَّزَتْ لهنَّ مُتْكَئًا حَافِلاً بِالفَوَاكِهِ وَالأَطْعِمَةِ.. وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِيْنًا حَادَّة، وَأَمرَتْ يُوْسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عَظِمْنَهُ، وَمُلئَتْ شَغَافُ قُلُوبهم مَهَابةً وَسَحَرَ عُيَونَهُنَّ جَمَالُهُ.

ونَـجَحَتِ امْرَأةُ العَزِيْزِ فِيْ خُطَّتِهَا، فَقَالَتْ لهنَّ وَالدِّمَاءُ تَسِيْلُ مِنْ أَيْدِيْهِنَّ: فَذَلِكُنَّ الَّذي لُـمْتُنَنِّي فِيْهِ، فَكَيْف بِي وَهُوَ يُلاَزِمُنِي فِيْ بَيْتِي، وَيَدنُو مِنِّي وَأَدنُو مِنْهُ، وَأدْعُوهُ إليَّ فَيَأْبَى!! وَلَكِنِّي سَوْفَ أَنَالُ مِنْهُ مَا أُرِيْدُ، أَوْ يَكُونُ مَصِيْرَهُ السِّجْنُ.

لَقَدِ اعْتَرفَتْ لهُنَّ بِإدَانَتِهَا، وَاعْتَرفَتْ لهنَّ بِبَرَاءتِهِ مِنَ السُّوءِ وَالفَحْشَاءِ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بِهَذَا الاعْتَرَافِ أَنْ تَغِيْظَهُنَّ!

وَهَكذَا تَسْتَبِدُّ الْـمَرأَةُ بِالأَمْرِ الَّذِي تَظُنُّ أَنَّها قَادِرَةٌ عَلَيْهِ، وَتِظْهِرُ لهنَّ عَدَمَ الاكْتَرَاثِ بِمَكْرِهِنَّ وَتَشْنِيعِهِنَّ عَلَيْهَا.

وَفِيْ نَظَرَي أَنْ هَذِهِ الْـمَرأةَ لَمْ يُؤْتِهَا اللَّهُ شَيْئًا مِنَ الْـحِكْمَةِ، وَلوْ كَانَ لَدَيهَا شَيءٌ مِنَ الفَهْمِ لَعَرِفَتْ يُوسُفَ مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ مَنْ هُوَ؟

لَعَرِفَتْ أنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيْهِ كُلُّ خِصَالِ الْـخَيْرِ، وَكُلُّ أَوْصَافِ الكَمَالِ البَشَرِيِّ، وَأنَّهُ بِطَبِعِه مَصُونٌ عَنْ كُلِّ رَذِيْلَةٍ، مَعْصُومٌ عَنْ كُلِّ سُوءٍ، وَإنَّ النِّسُوَةَ اللاَّتِي مَكَرَتْ بِهنَّ أَعْقَلَ مَنْهَا، فَقَد أَصْدَرْنَ حُكْمَهُنَّ عَلَيْهِ مَنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ، فَقُلْنَ مَا قَد حَكَى القُرْآنُ عَنْهُنَّ: مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيْمٌ.

مُنَاجَاةٌ وَاسْتِغَاثَةٌ:

وَقَدْ رَأَى يُوسُفُ عليه السلام أَنَّ الْـخَطَرَ لَـحِقَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَأضْحَى فِيْ كَرْبٍ عَظِيْمٍ وَهَمٍّ لا يُطَاقُ، فَاسْتَغَاثَ به، وَفَضَّلَ السِّجْنَ على مَا هُوَ فِيْهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ؛ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ النِّسْوَةِ، وَلَـمَّا اشْتَهَرَ حَدِيْثُهُ بَيْنَ خَاصَّةِ الْقَومِ فَاجْتَمَعُوا لِيَتَشَاوَرُوا فِيْمَا بَيْنَهُ على إِبْعَادِهِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْهُ، فَقَرَّرُوا بَعْدَ حِوَارٍ طَوِيْلٍ أَنْ يَلْقُوهُ فِيْ غَيَابَاتِ السِّجْنِ مَعَ أَنَّهُم يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَرِيءٌ، ولَمْ يَخْتَار يُوسُفُ عليه السلام السَّجْنَ وَلَكِنَّهُ فَضَّله على مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ النِّسْوَةُ.

يُوسُفُ فِي السَّجْنِ:

دَخَلَ يُوسُفُ السِّجْنِ وَمَعهُ فتَيَانِ، أَحْدُهُما كَانَ سَاقِيَ الْـمَلِكِ، وَالآخََرُ كَانَ خَازِنَ طَعَامِهِ، وَقد عَرِفَا قَدْرِهِ فَاتَّخَذَاهُ مُرْشِدًا وَمُعَلِّمًا يَسْأَلاَنِهِ عَمَّا بَدَا لهمَا، وَيَسْتَفْتِيَانِهِ فِيْمَا لَم يُحِيْطَا بِعَمَلِهِ.

وَقَدْ اسْتَفْتَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيْ رُؤْيَا رَآهَا فَقَالَ أَحَدُهُما: {إنٌَي أّرّانٌي أّعًصٌرٍ خّمًرْا $ّقّالّ الآخّرٍ إنٌَي أّرّانٌي أّحًمٌلٍ فّوًقّ رأًسٌي خٍبًزْا تّأًكٍلٍ پطَّيًرٍ مٌنًهٍ نّبٌَئًنّا بٌتّأًوٌيلٌهٌ} (سورة يوسف، الآية: 36).

اغْتَنَمَ يُوسُفُ حَاجتْهُمَا إلى تَفْسِيْرِ رُؤْيَتِهمَا وَحُسْنِ إِصْغَائِهَما لِيَعْرَضَ عَلَيْهِمَا الدِّيْنَ الَّذِي ارْتَضاَهُ اللَّهُ لَهُ وَلآبَائِهِ الكِرَام، وَاصْطَفَاهُ لِنَشْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، فَمَهَّدَ الطَّرِيْقَ إلى إقْنَاعِهِم بِهَذَا الدِّيْنِ، فَذَكَرَهُم بِمَا يَجْرِي على يَدَيْهِ مِنْ كَرَامَاتٍ.

مِنْهَا: أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُهُمَا عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي يُرْزَقَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيْهِمَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ، وَيَذْكُرُ لهمَا مَنَافَعَهُ وَمَضَارَهُ وَكَيْفَ صُنَعَ؟! وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ لَكِنَّهُ يَسْتَمِدَّهُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .

قَالَ تَعَالَى: {يّا صّاحٌبّيٌ پسٌَجًنٌ أّمَّا أّحّدٍكٍمّا فّيّسًقٌي رّبَّهٍ خّمًرْا $ّأّمَّا الآخّرٍ فّيٍصًلّبٍ فّتّأًكٍلٍ پطَّيًرٍ مٌن رَّأًسٌهٌ قٍضٌيّ الأّمًرٍ پَّذٌي فٌيهٌ تّسًتّفًتٌيّانٌ} (سورة يوسف، الآية، 41).

وَأَوْصَى النَّاجِي مِنْهُمَا فَأَوْصَاهُ خَيْرًا، وقَالَ لَهُ فِي وَصِيَّتِهِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ سَيِّدِكَ إِذْ جَدَّ الْـجَدُّ، وَاحْتَاجُ النَّاسُ إلى عِلْمٍ، وَأنَا لاَ أَبْتَغِي مِنْهُم أَجْرًا، وَأَجْرِيَ على اللِّهِ.

رُؤْيَا الْـمَلِكِ وَعَجْزِ الْـمَلإِ عِنْ تَأْوِيْلِهَا:

وَيَرى الْـمَلِكُ (الرَّيَانُ بْنُ الوَلِيْدِ) رُؤْيَا أَدْهَشَتْهُ، وَحَيَّرَتْ فِكْرَهُ، وَأَدْخَلَتْ فِيْ قَلْبه الهَلَعِ وَالْـجَزَعِ.

{أّفًتٌنّا فٌي سّبًعٌ بّقّرّاتُ سٌمّانُ يّأًكٍلٍهٍنَّ سّبًعِ عٌجّافِ $ّسّبًعٌ سٍنًبٍلاتُ خٍضًرُ $ّأٍخّرّ يّابٌسّاتُ} (سورة يوسف، الآية، 46).

فَدَعَا أَشْرَافَ الْقَوْمِ وَسَادَاتِهِم وَعُلَمَاءَهُم، وَعَرضَ عَلَيْهِم هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَطَلَبَ مِنْهُم أَنْ يُفَسِّرُوهَا له، فَفَكَّرَ الْـمَلأُ طَوِيْلاً فِيْ أَمْرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، ولَكِنَّهُم عَجَزُوا، بَلْ وَحَكَمُوا أَنْهَا أَخْلاَطُ مِنَ الصُّوَرِ لَيْسَ لَهَا رَابِطٌ وَلاَ ضَابِطٌ.

أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ:

وَهُنَا يَتَذَكَّرُ السَّاقِيَ يُوسُفُ عليه السلام بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ فَقَالَ لِلْمَلِكِ وَمِنْ حَوْلِهِ: أَنَا قَدْ وَجْدّتُ بَغِيَّتَكُم، أَنَا أُخْبِرُكُم بِتَأْوِيْلِهَا.. وَلَكِنْ عَنْ طَرِيْقِ رَجُلٍ صَالِحٍ عَلَيْهِ سِمَاتِ الْـجَلاَلِ وَالـجَمَالِ، وَلَدَيْهِ عَلْمٌ غَزِيرٌ وَغَيْرِهَا مِنْ شُؤُون الدُّنْيَا فَأَرْسِلُونِي إِلَيْهِ..

فَأَرْسَلُوهُ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ وَجَدهُ صَابِرًا فَنَادَاهُ بِأَحَبِّ الأَوْصَافِ إِلَيْهِ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ: أَفْتِنَا فِيْ رُؤْيَا الْـمَلِكِ، وَعَجَزَ الْـمَلأُ جَمِيْعًا عَنْ تَعْبِيْرِهِا (أَيّ تَفْسِيْرِها)، وَالـمَلِكُ هَوَ الرَّيَانُ بْنُ الوَلِيْدِ أَحَدُ مُلُوكِ الهِكْسُوسِ الَّذِيْنَ اسْتَعْمَرُوا الْوَجْهَ البَحَرِّيّ لِـمِصْرَ.

وَلَـمَّا عَرَضَ السَّاقِي عَلَى يُوْسُفَ رُؤْيَا الْـمَلِكِ أَسْرَعَ يُوْسُفُ بِتَأْوِيْلِهَا وَبَيَانِ عَوَاقِبِهاَ وَمَزَجَ التَّأْوِيْلَ بِالنُّصْحِ وَالإِرْشَادِ لِـمُوَاجَهَةِ الْـجَدْبِ وَالْقَحْطِ الَّذِي سَيَنْزِلُ بِالْبِلاَدِ لِـمُدَّةِ سَبْعِ سِنِيْنَ مُتَوَاصِلَةٍ بَعْدَ َرخَاءٍ يَُدومُ سَبْعَ سِنِْينَ مُتَّصِلَةً ، وَأَخْبَرَهُم بِشَيءٍ آخَرٍ لاَ تـَحْتَمِلُه الرُّؤْيَا ، الْتَمَسَهُ بِالَوحَيِّ أَو بِالـْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيْ عَقْلِهِ وَقَلْبه ، وَقدْ نَصَحَهُم إِذَا حَصَدُوا زَرْعَهُم أَنْ يَتْرُكُوهُ فِيْ سُنْبُلِهِ بِطَرِيْقَةٍ تـَحْفَظُهُ مِنَ السُّوسِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّا يَحْتَاجُوْنَ إِلَيْهِ فِيْ مَأْكَلِهِم وَالاكْتِفَاءِ بِمَا يَسُدُّ حَاجَّةَ الْـجُوْعِ فَهَذِهِ السِّنُونُ السَّبْعِ تَأْوِّيلٌ لِلْبَقَرَاتِ السَّبْعِ السِّمَانِ ، والسُّنْبُلاَتِ الْـخُضْرِ تَأْوِّيْلاً لِزَرْعِ سَنَةٍ وَأَخْبَرَهُم بأَِنَّهُ سَيَأْتِي بَعَدَ هَذَا الْـخَصْبُ وَالرَّخَاءُ سَبْعَ سَنَواتٍ عِجَافٍ ِصعَابٍ على النَّاسِ يَأْكُلونَ مَا قَدَ ادَّخَرُوهُ مِنْ أَقْوَاتٍ ، حَتَّى تَنْفَضَّ الْـخَزَائِنُ، وَتَفْنَي الْـمُدَّخَرَاتُ، وَيَشْتَدَّ الكَرْبُ وَلاَ يَبْقَي إِلاَّ القَليِْلُ مِمَّا ادَّخَرُوهُ وََصانُوهُ مِنَ التَّلَفِ.

كَمَا أَخْبَرَ السَّاقِي بِأَنَّهُ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِيْنِ الْـمُجْدِبَةِ عَامٌ يَجِدُ فِيْهِ النَّاسٍ خَيْرًا كَثِيْرًا يُغِيْثُهُم مِمَّا كَانُوا فِيْهِ مِنْ جَدْبٍ وَّشِدَّةٍ ، عَامٌ يُعْصِرُونَ فِيْهِ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْصَرَ عِنْدَهُم مِنَ الفَوَاكِهِ وَالقَصَبَ وَالسِّمْسِّمِ وَغَيْرِهِ.

يُوْسُفُ يَرْفُضُ الْـخُرُوجَ مِنَ السَّجْنِ حَتَّى تَثْبُتَ بَرَاءَتُهُ عند الْـمَلِكِ:

وَرَجَعَ السَّاقِيَ إلى الْـمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ بِتَأْوِيْلِ رُؤْيَاهُ فَأُعْجِبَ بِالْـمُعَبِّر وَالتَّعْبِيْرِ ، وَوَقَرَ فِيْ قَلْبه أَنَّ مثل هَذَا العَالِم بِظَوَاِهرِ الأُمُورِ وَمَا تَؤُوُل إِلَيْهِ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ ، وَالْـخَبِيْرُ بِتَعْبِيْرِ الرُّؤَي - لاَ يَنْبِغِي أَنْ يَظَلَّ فِيْ سَجْنِهِ ، فَطَلَبَ مِنَ الْـمَلإِ أَنْ يَأْتُوا بِهِ لِيَسْمَعَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ، وَيَعْرَفَ مِنْهُ حَقِيْقَةَ الأُمُورِ.

فَلَمَّا جَاءَهُ أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلى سَيِّدِهِ فَيَسْأَله عَنِ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعَنَ أَيْدَيَهُنَّ وَمَا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنْ كَيْدٍ لَهُ وَمَكْرٍ به. فَرَجَعَ الرَّسُولُ إلى الْـمَلِكِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَاله يُوْسُفُ؛ فَازْدَادَ لَهُ حُبًا وَعَظَّمَهُ فِيْ نَفْسِهِ وَتَمَنَّى مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبه أَنْ يَرَاهُ.

الْـمَلِكُ يَتَحَقَّقُ مِنْ كَيْدِ النِّسْوَةِ :

جمَعَ الْـمَلِكُ النِّسْوَةُ وَمَعَهُنَّ امْرَأَةُ العَزِيْزِ وَلَمْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ قَاضِيًا يُحَقِّقُ فِيْ القَضِيَّةِ مِنْ جَدِيْدٍ ، لأَنَّهُ يَعْرِفُ كُلَّ شَيءٍ عَمَّا حَدَثَ لِهَذَا الفَتَي ، فَقَالَ لهنَّ : مَا شَأْنُكُنَّ؟ وَكَيْفَ كَانَ حَالُكُنَّ ِإذْ رَاوَدْتُنَّ يُوْسُفُ عَنْ نَفْسِهِ ، طَالِبًا مِنْهُنَّ الإِقْرَارَ أَمَامَهُ بِمَا لاَ يَشُكُّ هُوَ فِيْه إِحْقَاقًا لِلْحَقِّ ، وإِبْطَالاً لِْلَبَاطِلِ، وَإِنْصَافًا لِلِمَظْلُومِ، وإِحْرَاجًا لِلظَّالِمِ وَعَبَّرَ لِلْمُسْتَمِعِيْنَ فِيْ سَاحَةِ الْـحُكْمِ َوقَطْعًا لِشَكِّ الْـمُرْتَابِيْنَ فِيْ بَرَاءَةِ يُوْسُفَ؛ فَأَجَابَ النِّسْوَةُ بِجَوَابٍ يُنَزِّهُ يُوْسُفَ عليه السلام مِنْ أَيّ مَسَاءَةٍ نُسِبَتّ إِلَيْهِ أَمَّا امْرَأَة العَزِيْزِ فَقَدْ أَقَرَّتْ بِجُرْمِهَا فِيْ صَرَاحَةٍ تَامَّةٍ وَشَجَاعَةٍ أَدَبِيَّةٍ نَادِرَةٍ وَأُسْلُوْبٍ يُنْبِيءُ عَنْ نَدَمِهَا وَتَوْبَتِهَا وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ ثَنَاءً عَطِرًا، وَاعْتَرَفَتْ أَنَّ النُّفُوسَ الْـمَرِيْضَةَ أمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وََرحْمَةُ اللَّهِ وَاِسعَةٌ وَهِيَ تَنْتَظِرُ مِنَ اللَّهِ العَفْوَ وَتَنْتَظِرُ مِنْ يُوْسُفَ الصَّفْحَ.

خُرُوْجُ يُوْسُفُ مِنَ السَّجْنِ وَتَوَلِّيَتِهِ شُؤُونِ الْـمَلِكِ:

وَخَرَجَ يُوْسُفُ مِنْ سَجْنِهِ مُعَزَّزًا مَكَرّمًا فِيْ مَوْكِبٍ َمهِيَبٍ إلى قَصْرِ الْـمَلِكِ ، فَلَمَّا جَلَسَ عِنْدَهُ تَجَاذَبَا أَطْرَافَ الْـحَدِيْثِ؛ فَشَهِدَ لَهُ الْـمَلِكُ بِالقُوَّةِ الْـحِسِّيَّةِ وَالْـمَعْنَوِيَّةِ وَالأَمَانَةِ فِيْ الدِّيْنِ وَالعِرْضِ وَأَسْلَمَ على يَدَيْهِ ! وَخَيَّرَهُ فِيْ الوَظِيْفَةِ الَّتِي يَشّغَلُهُا، فَاخْتَارَ يُوْسُفُ أَنْ يَتَوَلَّي خَزَائِنَ الأَرْضِ وَيَكُونَ مَسْؤُولاً عَنْ شُؤُونِ الزِّرَاعَةِ والتِّجَارَةِ؛ فَأَجَابَهُ الْـمَلِكُ إِلَى ذَلِكَ كَلِّهِ فِيْ سُرُوٍر، وَتَوَلَّي يُوْسُفُ شُؤُونَ الْـمُلْكِ، وَصَارَتْ الدُّنْيًا كُلَّهَا فِيْ قَبْضَتِهِ.

فَمَلَكَهَا بِيَدِيْهِ وَلَمْ يَمْلِكْهَا بِقَلْبه، وَعَاشَ فِيْ مِصْرَ مَلِكًا نَبِيًّا جَمَعَ اللَّهُ لأَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَي الدُّنْيَا وََالآخِرَة.

أَوَّلُ لِقَاءٍ لَهُ بِإِخْوَتِهِ بَعْدَ طُوْل غَيْبَتِهِ:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ لَهُ الْـمُلْكُ فِيْ مِصْرَ، وَاسْتَتَبَّ الأَمْرُ، وَعَمَّ الرَّخَاءُ، وَسَادَ العَدْلُ فِيْ الرَّعِيَّةِ، جَاؤُوا مِنْ بَادِيَةِ الشَّامِ يَطْلُبُونَ الْـمِيْرَةَ وَمَعَهُم مِنَ البِضَاعَةِ مَا لاَ يَفِيْ بِمَطَالبهم عِنْدَ اسْتِبْدَالِهَا. دَخَلُوْا عَلَيْهِ فِيْمَن دَخَلَ مِنْ أَهْلِ البِلاَدِ الْـمُجَاوِرَةِ وَالبَعِيْدَةِ؛ فَعَرَفَهُم فَقَرّبَهُم مِنْهُ وَسَأَلهم عَنْ حَالِهِمُ وَحَالِ أَبِيْهِم، فَأَخْبَرُوْهُ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ وَهُم لَهُ مُنْكِرُوْنَ لاَ يَعْرِفُوْنَهُ مَعَ أَنَّهُم لَـمَحُوْا فِيْهِ أَوْصَافَ الْـجَمَالِ. لَكِنَّهُم لَمْ يَتَصَوَرُوا -وَلَو لِلَـحْظَةٍ- أَنْ يُوْسُفَ الَّذِي أَلْقُوهُ فِيْ الْـجُبِّ قَدْ أَصْبَحَ مَلِكًا فِيْ قُطْرٍ وَاسِعٍ فَسِيْحٍ كَثِيرُ الْـخَيْرَاتِ وَله بَيْنَ الأقطار شَأْنٌ عَظِيْمٌ.

وَلَـمَّا أَكْرَمَهُم وََهَمُّوا بِالرَّحِيْلِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِم الأَرْزَاقَ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُم مِنْ أَبِيْكُم لِيَحْصُلَ مِنْ الْـمِيْرَةِ وَهَدَّدَهُم بِقَطْعِ الْـمِيْرَةِ عَنْهُم إِنْ لَمْ يَأْتٍوْا بِهِ مَعَهُم فَوَعَدُوهُ بِالْـمُحَاوَلَةِ.

وَقَدْ بَالَغَ يُوْسُفُ عليه السلام فِيْ إِغْرَائِهِم بِالرُّجُوْعِ إِلَيْهِ فَأَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَجْعَلُوَا بِضَاعَتَهُم الَّتِي جَاؤُوا بِهَا فِيْ رِحَالِهُم حَتَّى إِذَا وَجَدُوْهَا هَمُوْا بِردِّهَا . فَلِمَاذَا لاَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ وَمَعَهم أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) وَلَكِنْ كَيْفُ يَأذَنَ لَهُم أَبُوهُ وَقَدْ فَعَلُوْا بِيُوْسُفَ مِنْ قَبْلُ مَا فَعَلُوا؟ فَذَهَبُوا إِلَى أَبَيْهِم وَوَضَعُوهُ أَمَامَ الوَاقِعِ، وَحَمَّلُوهُ مَسْؤُولِيَّةِ جُوعِ أَهْلِهِ وَأَهْلَ بَلَدِهِ إِنْ هُوَ عََصي أَمْرَ الْـمَلِكِ. فقَالَوا: يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكَيْلُ، أَرْسِلْ مَعَنا أَخَانَا (بِنْيَامِيْنَ) لِكَي يَسْتَمِرَّ الْـمَدَدُ وَيَزْدَادَ الْـخَيْرُ، وَوَعَدُوهُ بِأَنْ يَحْفَظُوهُ وَيُحْسِنُوا إِلَيْهِ؛ فَذَكَّرَهُم يَعْقُوبُ عليه السلام بِمَا كَانَ مِنْهُم فِيْ شَأْنِ يُوْسُفَ وَلَكِنَّهُ أَسْنَدَ الأَمَرَ إِلَى اللَّهِ. وَطَلَبَ مِنْهُ الْـحِفْظَ وَالرَّحْمَةَ.

وَلَـمَّا فَتَحَ الأَبْنَاءُ مَتَاعَهُم وَجَدُوا بِضَاعَتَهُم قَد رُدَّتْ إِلَيْهِم فَقَوِيَتْ حُجَّتَهُم عَلَى أَبِيْهِم وقَالَوا: يَا أَباَنَا مَاذَا تُرِيْدُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَْو ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَمَعَنَا أَخُونَا فَسَوفَ نُوَسِّعَ عَلَى أَهْلِنَا، وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيّرٍ، وَنَحْفَظُ أَخَانَا حَتَّى نَرُدَّهُ سَالِـمًا.

أُبُوهُم يُوصِيَهُم بِأَخْذِ الْـحَذَرِ مَعَ الإِيْمَانِ بِالقَدَرِ :

وَرَضِيَ الشَّيْخُ أَنْ يُسْلِمَ وَلَدَهُ (بِنْيَامِيْنَ) إِلَى إِخْوَتِهِ، وَلِكَنْ عَلَى مَضَضٍ وَاضْطِّرَارٍ ، وهُوَ فِيْ هَذِهِ الْـمَرَّةِ يَسْتَوْثِقُ مِنْهُم بِمِيْثَاقُ غَلِيْظٍ أَنْ يَرُدُوه إِلَيْهِ مَا دَامُوا قَادِرِيْنَ عَلَى الرَّدِّ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ {پلَّهٍ عّلّى" مّا نّقٍولٍ $ّكٌيلِ} (سورة يوسف، الآية 66)

وقَالَ كَمَا جَاءَ فِيْ القُرْآنِ عَنْهُ {فّاللَّهٍ خّيًرِ حّافٌظْا $ّهٍوّ أّرًحّمٍ پرَّاحٌمٌينّ} (سورة يوسف، الآية 64)

وَخَرَجَ يُوَدِّعُ أَبْنَاءَهُ الأَحَدَ عَشَرَ إِلَى وَجْهِ الطَّريق وهُوَ يَخْشَي عَلَيْهِم جَمِيْعًا مِنَ الْـحَسَدِ أَوِ الْـحِصَارِ أَوِ الأَسْرِ ، وَذَكَّرَهُم بِاللَّهِ وَوَعَظَهُم وَعْظًا بَلِيْغًا، فَحَفِظُوا الَوَصِيَةَ وَمَعَهُم أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) يَنْعَمُ بِعَطْفِهِم وَرِعَايَتِهِم لأَنَّهُم لَمْ يَجِدُوا مِنْهُ مَا يَحْسِدُونَه عَلَيْهِ. وَانْتَهَي بِهِمُ الْـمَسِيْرُ إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ دَخَلُوْهَا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ كَمَا أَوْصَاهُم واَلدُهُم.

اللِّقَاءُ الثَّانِي:

وَلَـمَّا جَاءَهُم الإِذْنُ بِالدُّخُولِ فَدَخَلُوا - بَدَأَ بَأَخِيْهِ بِنْيَامِيْنَ فَحَيَّاهُ وَعَانَقَهُ، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَخَصَّهُ بِمَا لَهُ مِنَ التَّكْرِيْمِ ، لاَ لأَنَّهُ شَقِيقَهُ فَحَسْبٍ وَّلَكِنْ لأَنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا صَدَرَ مِنْ ِإخْوَتِهِ بَلْ كَانَ أَقْرَبَ شَبهًا بِهِ وَبِأَبِيهِ .

رَأَى يُوسُفُ عليه السلام أَمَارَاتِ الْـحُزْنِ وَالأَسَي بَادِيَةً عَلَى شَقِيقِهِ ، فَشَارَكَهُ بِنَفْسِهِ طَعَاَمَهُ وَشَرابَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَه عَلَى فِرَاشِهِ وَجَاذَبَهُ أَطْرَافَ الْـحَدِيْثِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَزَالُ يُعَانِي مِنْ الْكَرْبِ وَلاَ يَزَالُ يَأَسَفُ عَلَى فِرَاقِ شَقِيقِهِ يُوسُفَ ، أَفْصَحَ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ هُوَ يُوسُفُ.

فَفَرِحَ بِنْيَامِيْنُ فَرَحًا لَمْ يَفْرَحْ مِثْلَهُ قَطٌّ، وَتَبَدَّدَ حُزْنُهٌ وَزَالَ هَمُّهُ وَأَحَسَّ بِالأَمَانِ.

احْتِيَالُهُ فِيْ ضَمِّ أَخِيْهِ إِلَيْهِ :

وقد طَمِعَ بِنْيَامِيْنُ فِيْ البَقَاءِ مَعَ أَخِيْهِ، وطَمِعَ يُوْسُفُ فِيْمَا طَمِعَ فِيْه أَخُوْهُ فَفَكَّر فِيْ حِيْلَةٍ بِهَا تَتَحَقَّقُ رَغْبَتَهُ تَتَمَثَّلُ فِيْ وَضْعِ السِّقَايَةِ فِيْ رَْحِل أَخِيْهِ قَبْل انْصِرَافِهِ مِنْ مِصْرَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ مُؤَذِّنًا يُنَادِي فِيْ الْعِيْرِ {إنَّكٍمً لّسّارٌقٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 70) فَإِذَا مَا سَمِعُوا هَذِهِ الْـمَقُولَةَ فَسَيَعُودُونَ حَتْمًا إِلَى سَاحَةِ يُوسُفَ عليه السلام لإِثْبَاتِ بَراءِتِهِم فَيَبْدَأُ يُوْسُفُ فِيْ التَّفْتِيْشِ عَنِ السِّقَايَةِ أَيّ (الصُّوَاعِ) بِأَوعِيَتِهِمُ ثُمَّ يُفَتِّشُ وِعَاءَ أَخِيْهِ بِنْيَامِيْنَ فيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ السِّقَايَةَ ، فَيَكُونَ بِذَلِكَ قَدْ جَازَ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُ عِنْدَهُ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْضِي شَرِيْعَةُ يَعْقُوْبَ عليه السلام (فَإِن السَّارَقَ يُسْتَرَقُّ) فَيَكُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يَعِيْشَ عِنْدَ الْـمَسْرُوقِ مِنْهُ عَبْدًا رَقِيْقًا يَتَصَرَّفُ فِيْه كَيْفَ شَاءَ .

فَلَمَّا رَأَى الإِخْوَةُ السِّقَايَةَ قَد اسْتُخْرِجَتْ مِنْ رَحْلِ بِنْيَامِيْنَ سُقِطَ فِيْ أَيْدِيْهِمُ، وَتَحَرَّكَتِ الأَحْقَادُ القَدِيْمَةُ فِيْ قُلُوْبِهِمُ {قّالٍوا إن يّسًرٌقً فّقّدً سّرّقّ أّخِ لَّهٍ مٌن قّبًلٍ فّأّسّرَّهّا يٍوسٍفٍ فٌي نّفًسٌهٌ} (سورة يوسف، الآية: 77)، وََوقَعَتْ هَذِهِ الْـمَقَالَةُ مِنْ نَفْسِ يُوْسُفَ عليه السلام مَوْقِعًا آلَـمَهُ وَأَحْزَنَهُ لَكِنَّهُ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وطَمِعَ الإِخْوَةُ فِيْ إِحْسَانِ يُوسُفَ عليه السلام وهُوَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمُ أَخَاهُم، ويَأْخُذَ مِنْهُم مَنْ يَشَاءُ عِوضًا عَنْهُ رَحْمَةً بِأَبِيْهِم الشَّيْخِ الكَبِيْرِ.

فَقَالَ يُوْسُفُ: {قّالّ مّعّاذّ پلَّهٌ أّن نَّأًخٍذّ إلاَّ مّن $ّجّدًنّا مّتّاعّنّا عٌندّهٍ إنَّا إذْا لَّظّالٌمٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 79)

وَلَـمَّا بَلَغَ مِنْهُم اليَأْسُ مَبْلَغًا بِسَبَبِ اسْتِعَاذَتِهِ بِاللَّهِ مِمَّا طَلَبُوهُ، فَلَـمَّا قَطَعُوا الأَمَلَ مِنْ أَخْذِ بِنْيَامِيْنَ ، اِجْتَمَعُوا بَعِيْدًا عَنِ النَّاسِ يَتَنَاجَوْنَ فِيْ أَمْرِهِم هَذَا ، فَقَالَ لَهُم كَبِيْرُهُم : أَنَسِيْتُم أَنَّ أَبَاكُم قَد أَخَذَ عَلَيكُم مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَنْ تَأْتُوهُ بِابْنهِ سَالـِمًا؟ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطُتُم فِيْ يُوسُفَ؟

أَيّ: هَلْ نَسِيْتُم مَا فَعَلْتُوهُ بيُوْسُفَ مِنَ قَبْلُ؟ فَكَيْفَ تُوَاجِهُونَ أَبَاكُم؟ وَبِمَاذَا تَعْتَذِرُوْنَ إِلَيْهِ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ وَقْعُ الْـخَبْرِ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ مَا وَقَعَ بَيْنَهُم مِنْ هَمْسٍ وَمُشَافَهَةٍ ، وَأَخْذٍ وَرَدٍّ .

قَالَ كَبِيْرُهُم {فّلّنً أّبًرّحّ الأّرًضّ حّتَّى" يّأًذّنّ لٌي أّبٌي أّوً يّحًكٍمّ پلَّهٍ لٌي $ّهٍوّ خّيًرٍ پًحّاكٌمٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 80).

مَوْقِفُ أَبِيْهِم بَعْدَ سَمَاعِ الْـخَبَرِ :

وَمَا كَادَ يَعْقُوبُ عليه السلام يَسْمَعَ مِنْ أَبْنَائِهِ هَذَا الْـخَبَرَ الْـمُؤْلِمَ حَتَّى وَاجَهَهُم بِمَا وَاجَهَهُم بِهِ فِيْ الْـمَرَّةِ الأُولَى حِيْنَ جَاءُوهُ يُلْقُونَ إِلَيْهِ بَالْـخَبَرِ الْـمُفْجِعِ فِيْ يُوسُفَ فَقَالَ لَهُم: { بّلً سّوَّلّتً لّكٍمً أّنفٍسٍكٍمً أّمًرْا فّصّبًرِ جّمٌيلِ عّسّى پلَّهٍ أّن يّأًتٌيّنٌي بٌهٌمً جّمٌيعْا إنَّهٍ هٍوّ پًعّلٌيمٍ پًحّكٌيمٍ <٣٨> $ّتّوّلَّى" عّنًهٍمً $ّقّالّ يّا أّسّفّى" عّلّى" يٍوسٍفّ $ّابًيّضَّتً عّيًنّاهٍٍ مٌنّ پًحٍزًنٌ فّهٍوّ كّظٌيمِ} (سورة يوسف، الآيتان : 83 - 84)،

وَانْصَرَفَ عَنْهُم بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ ، وَقَالَ فِيْ لَوْعة وَأَسَي {يّا أّسّفّى" عّلّى" يٍوسٍفّ} فَقَد كَانَ يَعْقُوبُ عليه السلام يَرَى أَنَّ يُوسُفَ هُوَ قُرَّةُ عَيْنِهِ وَثَمَرَةُ حَيَاتِهِ وَوَارِثُ عِلْمِهِ ، وَمُجَدِّدُ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ .

لِذَلِكَ لَمْ يَنْسَهُ أَبَدًا وَالبُكَاءُ لاَ يُنَافِي الصَّبْر، بَلْ هُوَ وَسِيْلَةٌ مِنْ الوَسَائِلِ الَّتِي تُعِيْنُ عَلَيْهِ .

إِذْ بِهِ يُفْرِغُ الْـمَرْءُ مَا فِيْ قَلْبِهِ مِنْ أَسَي وَيَتَخَلَّصُ مِنَ العُقَدِ الْـمُتَرَاِكَمَةِ عَلَى الصَّدْرِ فَيَتَّسِعُ وَيَسْتَرِيْحُ .

وَقَد بَكَي سَيِّدُنَا مُحَمَّدٍ [ عَلَى فِرَاقِ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيْمَ وَبَكَى عَلَى مَوْتِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ.

وَقَالَ أَوْلادُهُ: بَلْ وَأَقْسَمُوْا بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ وَالِدَهُم أَنَّهُ يَظَلَّ يَذْكُرُ يُوسُفَ، وَيَبْكِيَ عَلَى فِرَاقِهِ حَتَّي الْـمَوْتِ كَمَدًا وَحَسرَةً ، فَرَدَّ عَلَيْهِم وَالِدُهُم {قّالّ إنَّمّا أّشًكٍو بّثٌَي $ّحٍزًنٌي إلّى پلَّهٌ $ّأّعًلّمٍ مٌنّ پلَّهٌ مّا لا تّعًلّمٍونّ} (سورة يوسف، الآية : 86).

وَالْبَثُّ هُوَ : الهَمُّ وَالْكَرْبُ الَّذِي يَغْلِبُ صَاحِبَهُ فَلاَ يَتَّسِعُ لَهُ صَدْرُهُ، فَيُصَرِّحُ بِهِ وَيُلْقِيْهِ خَارِجَهُ ، وَهَذَا نُوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ ، ِإنَّ اللُّجُوءَ إِلَى اللَّهِ وَالْهِتَافِ بِهِ وَالشَّكْوَي إِلَيْهِ وَالتَّوجُّعُ لَهُ هُوَ مِنْ الإِيْمَانِ بِاللَّهِ وَالثِّقَةِ فِيْهِ.

وَأَرْشَدَهُم إِلَى مَا هُوَ الأَهَمِّ لَهُ وَلَهُم فَقَالَ : {يّا بّنٌيَّ عليه السلام ذًهّبٍوا فّتّحّسَّسٍوا مٌن يٍوسٍفّ $ّأّخٌيهٌ $ّلا تّيًأّسٍوا مٌن رَّوًحٌ پلَّهٌ إنَّهٍ لا يّيًأّسٍ مٌن رَّوًحٌ پلَّهٌ إلاَّ پًقّوًمٍ پًكّافٌرٍونّ} (سورة يوسف، الآية : 87).

اللِّقَاءُ الْـحَاسِمُ بَيْنَ يُوْسُفَ وَإِخْوَتِهِ :

امْتَثَلَ إِخْوَةُ يُوْسُفَ أَمَرَ أَبَيْهِم، فَارْتَحَلُوْا إِلَى مِصْرَ يَتَحَسَّسُوْنَ الْـخَبَرَ؛ فَأَقْبَلُوا إِلَى البَيْتِ الَّذِي فِيْهِ أَخُوْهُم (بِنْيَامِيْنُ) فَدَخَلُوْا عَلَى يُوْسُفَ وَهُم يَطْمَعُوْنَ فِيْ سَخَائِهِ وَعَفْوِهِ عَنْ أَخِيْهِم، فَجَلَسُوْا عِنْدَهُ وَأَخَذُوْا يَسْتَعْطِفُونَهُ بِأُسْلُوْبٍ غَايَةٍ فِيْ الْـمُلاَطَفَةِ وَالإِسْتِجْدَاءِ وَقَالَوْا لَهُ:

{يّا أّيٍَهّا پًعّزٌيزٍ مّسَّنّا $ّأّهًلّنّا پضٍَرٍَ $ّجٌئًنّا بٌبٌضّاعّةُ مٍَزًجّاةُ} (يوسف، الآية: 88)، (وَمُزْجَاة): أَي رَدِيْئَةٍ، وَاعْتَذَرُوْا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرُوهُ بِقِلَّةِ الْبِضَاعَةِ وَرَدَاءَتِهَا ، وَلَـمَّا سَمِعَ يُوْسُفُ عليه السلام مَقَالَتَهُم رَقَّ لَهُم وَدَنَا مِنْهُم وَأَخَذَ يُوَاسِيْهُم بِحَدِيْثِهِ الْعَذْبِ حَتَّى كَادُوْا يَسْأَلُوْنَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَا سَبَبُ اهْتِمَامِكَ بِنَا وَبِأَهْلِنَا ؟ وَتَحّمِلُنَا عَلَى أَنْ نُحْضَرَ لَكَ أَخَانَا الَّذِي تَخَلَّفَ عَنَّا ؟ ثُمَّ هَا هُوَ يُصْبِحُ رَهِيْنَةٌ بَيْنَ يَدَيْكَ ؟ قَالَ {هّلً عّلٌمًتٍم مَّا فّعّلًتٍم بٌيٍوسٍفّ $ّأّخٌيهٌٌ} (سورة يوسف، الآية 89).

وَهُنَا تَحَوَّلَ الشَّكُ إِلَى يَقِيْنٍ عِنْدَهُم فَقَالُوْا مَعًا {قّالٍوا أّئٌنَّكّ لأّنتّ يٍوسٍفٍ قّالّ أّنّا يٍوسٍفٍ $ّهّذّا أّخٌي قّدً مّنَّ پلَّهٍ عّلّيًنّا إنَّهٍ مّن يّتَّقٌ $ّيّصًبٌرً فّإنَّ پلَّهّ لا يٍضٌيعٍ أّجًرّ پًمٍحًسٌنٌينّ} (سورة يوسف، الآية 90).

وَلَـمَّا اِسْتَيْقَنُوْا أَنَّ العَزِيْزَ الَّذِي غَمَرَهُم بِعَطْفِهِ هُوَ الَّذِي كَادُوْا لَهُ مِنْ قَبْلُ كَيْدًا أَمْلاَهُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِم. اِعْتَرَفُوْا لَهُ بِالفَضْلِ وَاِعْتَذَرُوْا عَنْ خَطَايَاهُم الَّتِي اِرْتَكَبُوهَا فِيْ حَقِّهِ وَحَقِّ أَخِيْهِ وَحَقِّ أَبَيْهِ قَالُوْا: {تّاللَّهٌ لّقّدً آثّرّكّ پلَّهٍ عّلّيًنّا} (سورة يوسف، الآية 90)، لَقَدْ فَضََّلَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالعِلْمِ وَالْـحِلْمِ، وَالْـمُلْكِ {$ّإن كٍنَّا لّخّاطٌئٌينّ} فِيْمَا فَعَلْنَا بِكَ، فَقَد أَسَأْنَا بِفِعْلِنَا هَذَا إِسَاءَةً بَالِغَةً لاَ نَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا العَفْوَ، فَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَهَذَا خُلُقٌ قَدْ حَلاَّكَ اللَّهُ بِهِ وَمَيَّزَكُ بِهِ عَنَّا وَقَد صَرَّحَ لَهُم يُوسُفُ عليه السلام بِالصَّفْحِ وَالعَفْوِ عَنْهُم وَدَعَا لَهُم بِالْـمَغْفِرَةِ لِيَطْوِيَ بِذَلِكَ صَفَحَاتِ الْـمَاضِي الْبَغِيْضِ، وَيَفْتَحَ لِلْحَاضِرِ وَالْـمُسْتَقْبَلِ صَفَحَاتٍ ِّملْؤُهَا الْـحُبِّ وَالوَفَاءِ ، وَمِدَادُها الأَمْنُ والرخاء ، وَأمَرَهُم أَنْ يَذْهَبُوا بِقَمِيْصِهِ وَقَدْ أَعْطَاهُم إيَّاهُ إِلَى أَبِيْهِ الَّذِي طَالَ صَبْرُهُ الْـجَمِيْلُ لِيُلْقُوْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَيَِصيْرَ بِهِ بَصِيْرًا، وَأَمَرَهُم أَنْ يَجِيْئُوهُ بِأَهْلِهِِ أَجْمَعِيْنَ؛ لِيَعِيْشُوْا فِيْ ظِلِّهِ آمِنِيْنَ إِلَى مَا شَاءَ اللُّه عَزَّ وَجَلَّ .

وَلقَدْ كَثُرَتِ الرِّوَايَاتُ حَولَ القَمِيْصِ فَقِيْلَ : إِنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيْم عليه السلام ، نَزلَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَيْهِ مَنَ الْـجَنَّةِ حِيْنَ أُلْقِيَ فِيْ النَّارِ فَوَرِثَهُ إِسْحَاقُ ثُمَّ وَرِثَهُ يَعْقُوبُ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَعْقُوبُ فِيْ عُنُقِ يُوسُفَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخرَ، فَالْقَمِيْصُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ يُوسُفُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِخَوَتُهُ مُلَطَّخًا بِدَمٍ كَذِبٍ . وَالأََصحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ الأَقْمِصَةِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُهَا وَ الَّتِي عَلِقَ بَهَا عَرَقُهُ فَكَانَ فِيْهَا رِيْحُ يُوسُفُ عليه السلام .

رُجُوعِ الإِخوة إِلَى أَخِيْهِم بِالْبِشَاَرةَِ :

وَخَرَجَ الإِخْوَةُ مِنْ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ جَهَّزَهُم يُوسُفُ عليه السلام بِجِهَازِهِم ، فَمَا كَانَ مِنْ يَعْقُوبَ عليه السلام إِلاَّ أَنْ أَحَسَّ رِيْحَ حَبِيْبِهِ وَمَالِكِ قَلْبِهِ فَأَخْبَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِهِ فأََنْكَرُوْا عَلَيْهِ وَلَم يَثِقُوا فِيْ كَلاَمِهِ وَأَقْسَمُوْا بِاللَّهِ ِإنَّهُ لَفِيْ ضَلاَلِهِ القَدِيْمِ (وَالْـمُرَادُ بِالضَّلاَلِ هُنَا الْـحُبِّ الشَّدِيْدِ لِيُوْسُفَ وَالتَّعَلُّقِ البَالِغِ بِهِ) وَلَبِثَ يَعْقُوبُ عليه السلام أَيَّامًا كَأنَّهَا سَنَوَاتٍ يَتَرَقَّبُ وُصُولَ خَبَرِ يُوْسُفَ عليه السلام حَتَّى جَاءَ البَشِيْرُ وَهُوَ اِبْنُهُ يَهُوذَا الَّذِي يَحْمِلُ الْقَمِيْصَ مِنْ يُوْسُفَ وَهُوَ الَّذِي حَمِلَ إِلَيْهِ قَمِيْصَهُ الْـمُلَطَّخِ بِالدَمِ الكَذِبِ لِيَمْحُو السَّيِّئَةَ بَالْـحَسَنَةِ؛ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا أَمَرهُ يُوْسُفُ عليه السلام فَعَادَ إِلَى الشَّيْخِ بَصَرُهُ، فَأَبْصَرَ مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْهُ ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ، وَزَالَ عَنْهُ حُزْنُهُ، وَفَرِحَ بِقُرْبِ لِقَائِهِ بِحَبِيْبِهِ وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ، وَبِقُرْبِ جَمْعِ الشَّمْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ جَمِيْعًا فِيْ مِصْرَ.

وَشِفَاءُ سَيِّدَِنا يَعْقُوبَ بِوَضِْع الْقَمِيْصِ عَلَى وَجْهِهِ مُعْجِزَةً مِنْ الْـمُعْجِرَتِ الْـخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا إِرَادَةُ اللَّهِ الْـمُنْحَصِرَةِ فِيْ (كُنْ فَيَكُوْنُ) وَكَمَا أَنَّ رَدَّ بَصَرِ يَعْقُوبَ هِيَ مُعْجِزَةٌ .. كَانَ شَمُّهُ لِرِيْحِ يُوسُفَ عَلَى بُعْدٍ شَاسِعٍ أَيْضًا مُعْجِزَةً .. وَلَـمَّا شُفِيَ يَعْقُوبُ عليه السلام مِنْ مَرَضِهِ، وَحَلَّ عَنْهُ الْـحُزْنُ وَالهَمُّ ، أَجَابَ مَنْ لاَمُوهُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ مِنْ رَّبِّهِ بِصِدْقِ مَا كَانَ قَالَهُ لَهُم حِيْنَ (فَصَلَتِ الْعِيْرُ) وَهَذَا هُوَ الَوقْتُ الْـمُنَاسِبُ لِلْجَوَابِ قَالَ لَهُم مُقَرِّرًا صِدْق قَوْلِهِ : {أّلّمً أّقٍل لَّكٍمً إنٌَي أّعًلّمٍ مٌنّ پلَّهٌ مّا لا تّعًلّمٍونّ} (سورة يوسف، الآية: 96)، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَشْكُّوا فِيْ شَيءٍ مِمَّا ذَكَرْتُهُ لَكُم لأَنِّي نَبِيٌّ يُوْحَى إِلَيَّ.

أَبْنَاؤُهُ يَطْلُبُوْنَ مِنْهُ الصَّفْحَ وَالْـمَغْفِرَةَ

وَأَدْرَكَ أَْولَادُهُ مَعْنَي هَذَا العِتَابَ الْـمُهَذَّبَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مُنْتَهَي الْـحِلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْـحِكْمَةِ، وَالثِّقَةِ القَوِيَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحُسْنِ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ أَوَّلاً وَمَعَ أَبْنَائِهِ، وَمَعَ النَّاسِ جَمِيْعًا فِيْ عَصْرِهِ.

كَمَا أَحَسُّوْا بِأَنَّهُ قَد طَابَتْ نَفْسُهُ، وَسُرَّ فُؤَادُهُ، وَذَهَبَ عَنْهُ حُزْنُهُ وَهَمُّهُ فَسَأَلُوْهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ لَهُم َوَيَصْفَحَ عَنْهُم {قّالٍوا يّا أّبّانّا عليه السلام سًتّغًفٌرً لّنّا ذٍنٍوبّنّا إنَّا كٍنَّا خّاطٌئٌينّ<٧٩> قّالّ سّوًفّ أّسًتّغًفٌرٍ لّكٍمً رّبٌَي إنَّهٍ هٍوّ پًغّفٍورٍ پرَّحٌيمٍ} (سورة يوسف، الآيتان: 97 - 98).

دُخُولُ أَهْلِ يُوْسُفَ عَلَيْهِ وَتَحْقِيقِ رُؤْيَاهُ:

وَتَهَيَّأ َيَعْقُوبُ عليه السلام وَمَعَهُ أَبْنَاؤُهُ وَسَائِرُ أَهلِهِ لِلِقَاءِ عَزِيْزِهُم الَّذِي أَعَزَّهُ اللَّهُ بِالنِّبُوَّةِ وَالْـمُلْكِ وَالعِلْمِ وَالْـحِكْمَةِ ، فَلَـمَّا تَكَامَلَ عَدَدُهُم وَانْتَظَمَ عِقْدُهُم شَدُّوْا الرِّحَال إِلَيْهِ مُسْرِعيْنَ وَقُلُوبُهُم تَسْبِقَ رِحَالَهُم إِلَى هَذَا اللِّقَاءِ.

وَكَانَ يُوسُفُ عليه السلام يَتَرَقَّبُ هَذَا اللِّقَاءَ فِيْ لَهْفَةٍ وَّشَوْقٍ وَخَرَجَ إِلَى اِسْتَقْبَالِهُم إِلَى حُدُودِ مِصْرً وَنُصَبَ لَهُ هُنَاكَ بَيْتًا وَجِيْهًا يَسْتَقْبِلَهُم فِيْهِ فَلَـمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ تَلَقَّاهُم بِقَلْبِهِ وَقَالَبهِ وَحَيَّاهُم أَحَسنَ تَحِيَّةً، وَبَدَأَ بِأَبَوَيْهِ فَضَمَهُمَا إِلَيْهِ وَعَانَقَهُمَا طَوِيْلاً وَبَالَغَ فِيْ بِرِّهُمَا وَالإِحْسَانِ إليهما فِيْ الْـمَقَالِ.

وَأَذِنَ لَهُمَا وَلِسَائِرَ أَهْلِهِ بِالدُّخُولِ فِيْ أَرْضِ مِْصرَ آمِنِيْنَ عَلَى أَنْفُسِهِم لاَ يَخَافُون بَأْسًا وَلاَ يَخْشَوْنَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ.

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ {قّالّ عليه السلام دًخٍلٍوا مٌصًرّ إن شّاءّ پلَّهٍ آمٌنٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 99) .

وَكَانَتْ أُمُّهُ (رَاحِيْلُ) قَدْ مَاتَتْ مِنْ زَمَنٍ بَعِيْدٍ، وَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَ وَالِدِهِ هِيَ خَالَتَهُ (لَيْئَة) .

وَعِنْدَمَا رَأى يُوسُفُ عليه السلام إِخْوَتَهُ سَجَدُوا لَهُ وَمَعَهُم أَبَوَاهُ تَذَكَّرَ رُؤْيَاهُ، وَذَكَّرَ أَبَاهُ بِهَا :

{$ّرّفّعّ أّبّوّيًهٌ عّلّى پًعّرًشٌ $ّخّرٍَوا لّهٍ سٍجَّدْا $ّقّالّ يّا أّبّتٌ هّذّا تّأًوٌيلٍ رٍءًيّايّ مٌن قّبًلٍ قّدً جّعّلّهّا رّبٌَي حّقَْا $ّقّدً أّحًسّنّ بٌي إذً أّخًرّجّنٌي مٌنّ پسٌَجًنٌ $ّجّاءّ بٌكٍم مٌَنّ پًبّدًوٌ مٌنً بّعًدٌ أّن نَّزّغّ پشَّيًطّانٍ بّيًنٌي $ّبّيًنّ إخًوّتٌي إنَّ رّبٌَي لّطٌيفِ لٌَمّا يّشّاءٍ إنَّهٍ هٍوّ پًعّلٌيمٍ پًحّكٌيمٍ}  (سورة يوسف، الآية: 100)

بعْدَ ذَلِكَ اتَّجَهَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَد نَزَعَ نَفْسَهُ مِنَ اللِّقَاءِ وَالعِنَاقِ وَالفَرْحَةِ وَالبَهْجَةِ وَالْـجَاهِ وَالسٍّلْطَانِ وَالرَّغَدِ وَاتَّجَهَ إِلَى رَبِّهِ فِيْ تَسْبِيْحِ الشَّاكِرِ الذَّاكِرِ بِدَعْوَةِ جَمَعَ فِيْهَا لِنَفْسِهِ خَيْرَيّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

{رّبٌَ قّدً آتّيًتّنٌي مٌنّ پًمٍلًكٌ $ّعّلَّمًتّنٌي مٌن تّأًوٌيلٌ الأّحّادٌيثٌ فّاطٌرّ پسَّمّوّاتٌ $ّالأّرًضٌ أّنتّ $ّلٌيٌَي فٌي پدٍَنًيّا $ّالآخٌرّةٌ تّوّفَّنٌي مٍسًلٌمْا $ّأّلًحٌقًنٌي بٌالصَّالٌحٌينّ} (سورة يوسف، الآية: 101).

تَوْضِيْحٌ :(السُّجُودُ هُنَا تَحِيَّةٌ) ، وَالسُّجُودُ عِبَارَةٌ عِنْ إِنْحِنَاءِ القَامَةِ فَذَاكَ للَّهِ وَحْدُهْ وَلَيْسَ هُوَ وَضْعُ الْـجَبْهَةِ عَلَى الأَرْضِ.

تعليقات