طفوله عبد الله :
عبد الله طفل ذكي ونشيط ، ولد في بلاد اليمن السعيد ، وترعرع في ربوعها الجميلة ، تلك البلاد التي أنعم الله عليها بالخضرة والبساتين المزهرة الغناء ، فتميزت بذلك عن باقي أقطار الجزيرة العربية ، التي غطتها الصحارى الواسعة الكبيرة ، ولم تعرف الخضرة والنضرة إلا في بعض فصول السنة . أما اليمن فكانت تنعم بالخضرة كل أيام السنة ، خصوصا بعد أن بنى فيها اليمنيون سد مأرب الكبير الذي كان يحجز المياه وراءه بعد هطول الأمطار الموسمية ، وفي أيام الجفاف ، تفتح نوافذ السد ، فتجري المياه لتسقي البساتين والجنان عن يمين وشمال ، وقد نعم سكان اليمن بأطيب الفواكه وأشهى الثمار ، فكانوا لا يشتكون نقصا من زراعة أو مياه ، لقد وهبهم الله كل وسائل العيش الرغيد ، وقد ذكر الله تعالى نعمه على أهل اليمن في القرآن الكريم ، فقال :
( لقد كان لسبا في مسكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور )
وعاش عبد الله يشهد تلك الحياة الجميلة في رعاية أبوين عطوفين كريمين ، وهو مدلل ومنعم يرفل بالخيرات والمحبة وكبير العناية .
وفي أحد الأيام ، زار بيت عبد الله رجل كبير يظهر عليه سيما الوقار والتقوى ، ومكث في ضيافة أبي عبد الله عدة أيام ، عرف من خلال هذه الزيارة ، الطفل عبد الله ، ورأى في عينيه الذكاء والنبوغ ، وفي أفعاله وتصرفاته ما يؤكد ذلك .
إنه ولد ذكي ونشيط ، يتصرف في البيت تصرف النابهين الكبار ، وهنا أشار الرجل الكبير على والد عبد الله ، أن ينتقي له عملا مناسبا لذكائه ونبوغه ، وأن لا يعلمه حرفته الشاقة ، فقد كان والد عبد الله يعمل حدادا لصنع أجود السيوف اليمنية وأحسنها .
وحار أبو عبد الله في انتقاء عمل جيد لابنه لكي يرى فيه نبوغه وذكاءه ، وفكر أخيرا في أخذه لساحر الملك ، ليتعلم السحر ، إذ كان الناس في ذلك الوقت يصنعون بالسحر الأعاجيب . والسحر لا يتقنه إلا الأذكياء ، وهو يدر على الساحر المال الكثير ، لأنه يظهر للناس الحيل والعجائب الخارقة ، فيغدقون عليه المال .
عبد الله في قصر الملك :
وانطلق والد عبد الله إلى قصر الملك ، ومعه ولده عبد الله ، وتوسط له لكي يعلمه السحر على يد ساحر الملك ، فدخل حتى كلم مستشار الملك ، وأقنعه بضرورة تعليم السحر لعبد الله ، وخلا المستشار بالملك ، وكلمه بشأن عبد الله ، وقال له : يا مولاي إن ساحرك قد كبر وربما مات فجأة ، فأنت بحاجة إلى من يخلفه ، وقد أتيتك بولد ذكي ، أراه خير من يخلفه في هذا العمل ، وإذا تربي هذا الولد على يديك فسيصبح خادمك الأمين ، فتلمس الملك شاربيه الطويلين ، ثم هز رأسه موافقا على رأي مستشاره بقبول عبد الله . وداوم عبد الله على قصر الملك للتعلم ، ولكنه رأى عجبا ، رأى ما لم يكن يسمع به من قبل ، من أبيه أو أمه ، إنه رأى الخدم وكبار الموظفين يسجدون للملك ويعظمونه ، فالملك كان يدعي الألوهية ، ويطلب من الناس أن يسجدوا له كلما مروا بين يديه ، وإذا أراد أحد من الناس زيارته ، فعليه أن يركع له من الباب وهو مطأطيء رأسه ، فإذا ما وصل أمامه خر ساجدا له ، والذي يأبى ذلك يكون مصيره القتل أو السجن . وكان الملك يخدع الناس بأنه قادر وعظيم ، وأنه من سلالة الآلها ، وذلك بواسطة استعانته بالساحر الذي يسحر أعين الناس ، ويخدعها لكي ترى بعض الخوارق والحيل التي يدعي الملك أنها من صنعه وقدرته ، ليقول الناس : إن الملك فوق البشر ، وهو يصنع ما لم يصنعه البشر ، إنه قادر عظيم يستحق العبادة . . !
وكان أهل اليمن ما بين مصدق لحيل الملك ومنكر لها ، فصغار العقول آمنوا بالملك ، وقدموا له العبادة والطاعة كما يحب ويرغب ، وأهل العلم أنكروا على الملك هذا الادعاء ، ودعوا بين الناس إلى تكذيبه ، لكنهم اعتصموا في الكهوف والجبال البعيدة خوفا من نقمة الملك وجبروته ، وهناك وجدوا في خلواتهم مكانا صالحا للعبادة ، يعبدون الله الواحد بعيدا عن سلطة الملك وجواسيسه .
عبد الله يتلقى دروسا في السحر :
وحضر عبد الله إلى قصر الملك، وأخذ الساحر يعطيه دروسا في السحر ، فكان يأتي في الصباح الباكر ، ولا يعود إلى بيته إلا قبل الغروب ، وفي أحد الأيام مل عبد الله من هذا الدوام الطويل ، ومن الدروس التي لم تكن توافق رغبة وانشراحا في صدره ، لذلك ضاقت به ساحات القصر وصالاته رغم اتساعها ورحابتها ، وقرر أن يخرج للبر بعيدا عن العمران ، عل صدره ينشرح فيزول عنه الكدر ، إنه ينظر إلى الجبال المحيطة ببلدته ، فيظنها جاثمة فوق صدره ، وانطلق نحو المروج والتلال ، يركض ويقفز كأنه غزال شارد قد فك قيده ، وتاقت نفسه للانطلاق لا يبالي كم ركض ، وكم قطع من مسافات ، المهم عنده أن يركض ويقفز ، يصعد التلال ويهبط الأودية ، حتى قادته قدماه إلى كهف كبير ، فاقترب منه بخطا حذرة إلى أن وصل إلى أول فتحته ، فمد رأسه قليلا ثم أرهف حسه وكتم نفسه ، فسمع دمدمة عميقة تخرج من أعماق الكهف ، فاقترب أكثر فأكثر والدمدمة تسمع أكثر ، حتى وصل بعد ذلك قريبا من مصدر الصوت ، فنظر فإذا شيخ كبير هرم جالس على رقعة من جلد ، وقد استطال شعره الأشعث حتى كاد أن يغمر عينيه وفمه ، فاقترب منه خائفا يريد أن يعرف سر هذا الرجل وطريقة عيشه ، وهل هو مثل بقية الناس أم من جنس آخر يشبه البشر ..؟ وسلم بصوت مرتعد ، فرد عليه الشيخ السلام ببشاشة ولطف .
قال عبد الله : ألا يوجد لك مسكن في المدينة تسكنه بدل هذا الكهف ؟ قال الشيخ : أردت العزلة لوحدي هنا بعيدا عن الناس . قال عبد الله : ومن يضايقك من الناس ؟ فسكت الشيخ ولم يجب ، فألح عبد الله عليه بالسؤال ، إنه
أحب أن يعرف سر هذا الشيخ .
قال الشيخ : لا أخبرك بحقيقة أمري حتى تعدني بكتمان ما أخبرك به .
قال عبد الله : أعدك بذلك .
قال الشيخ : يا بني إن ملك البلاد طاغية جبار يدعي الألوهية ، ويطلب من الناس أن يعبدوه ، وما هو إلا بشر مثلنا خلقنا الله وإياه ، فالعبادة لا تكون إلا للخالق من المخلوقين ، لذلك أنكرت دعوى الملك ، وهجرت مسكني وأتيت إلى هذا المكان المنقطع أتعبد خالقي بعيدا عن رقابة الملك .
وتهلل وجه عبد الله مما سمع من هذا الشيخ الوقور ، إن كلامه جميل يدخل في القلب ، ونبرات الشيخ صادقة ، يدل على ذلك أنه ضحى بكل شيء من أجل أن يعبد الله الذي أحبه ووقر في قلبه ، لقد ترك مسكنه وفراشه وأطايب الطعام في البلدة ، وهو اليوم يعيش هنا منقطعا عن الناس ، يعيش عيشة تشبه عيشة وحوش الفلاة ، يقتات من العشب والشجر ، إنه هجر نعيم الدنيا من أجل أن يبقى له دينه وإيمانه ، مرت هذه الخواطر في ذهن عبد الله ، فما كان منه إلا أن جثا على ركبتيه أمام الشيخ ، وقال له : علمني مما تعلم ، فقد والله أحببتك أيها الشيخ الوقور .
قال الشيخ : الحمد لله الذي هداك يا بني ، سأعلمك إن شاء الله ما أعلم ، ولكن بشرط واحد .
قال عبد الله : اشترط ما تريد فأنا سامع ومطيع .
قال الشيخ : إياك أن تخبر أحدا بأمري ، وليكن ما تعلمه عني سرا لا يطلع عليه أحد ، ثم عليك أن تتردد علي بين حين وآخر حتى أعلمك ، فالعلم يحتاج إلى الصبر والمداومة .
قال عبد الله : اتفقنا ، وانصرف مودعا الشيخ .
عاد عبد الله مسرعا إلى ساحر الملك ، لقد تأخر كثيرا هذا اليوم ، ولما وصل إلى الساحر قال له الساحر : ما أخرك عنا هذا اليوم ؟
فالغياب يضر بك ويؤخرك عن تعلم السحر ، وأخذ دروسه من الساحر ثم انصرف إلى أهله ، وكان عبد الله يخرج كل يوم إلى الشيخ في الصباح الباكر ، يتلقى منه علوم الدين حتى وعى حقائق الإيمان والتوحيد ، فوقرت في صدره ، وعلم أن الله واحد أحد فرد صمد ، خلق الناس والمخلوقات جميعا ، وهو القادر على كل شيء يحيي ويميت، وما الملك والجنود إلا مخلوقات كغيرهم من البشر ، لذلك بدأ يكره الساحر والملك لكذبهما ، وخداعهما للناس .
وفي ذات يوم ، بينما كان عبد الله عائدا من كهف الشيخ قاصدا قصر الساحر ، إذا به يرى جمهرة من الناس تسد الطريق ، وقد بدا عليهم الخوف والقلق والاضطراب ، فأقترب وسأل عن سبب هذا الحشد من الناس ، فقالوا له : إن هناك أفعى كبيرة تقف في عرض الطريق ، وقد فغرت فاها لتلتهم من يقترب منها ، والناس كلهم خائفون ، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها ، وقد تعطلت مصالح الناس ، وقطعت المرور بين شطري المدينة .
قال عبد الله : أروني الأفعى ، وابتعد الناس ونظر عبد الله ، فإذا دابة مخيفة قد انتصب رأسها ، ومدت لسانها المتشعب الطويل ، وجحظت بعينيها الواسعتين المحمرتين كأنهما جمرتان من نار ، وبين حين وآخر تخرج من فمها فحيحا مخيفا ، تطير من شدته التراب والرمال .
قال عبد الله : يا للهول ! ماذا أفعل لأنقذ الناس ؟ ولمعت في رأسه فكرة رائعة ، وقال في نفسه : الآن أجرب وأعرف من الصادق منهما .
الشيخ أم الساحر ؟ ثم حمل حجرا وقال : اللهم إن كان الشيخ أفضل لي من الساحر فأقتل بقدرتك هذه الأفعى ، ورماها بالحجر فقتلها ، وفرح الناس بما فعل عبد الله فشكروه ، وهنؤوه على شجاعته وقوته ، وعبروا الطريق فرحين ، فانتشر خبره وما فعل ، وأصبح قصة تذاع بين الناس في كل مكان ، وعندما وصل عبد الله إلى قصر الملك ، كان الخبر قد سبقه إلى الملك ، فسر الملك وفرح بما صنعه عبد الله ، وقال : لقد تعلم عبد الله السحر وأتقنه ، لذلك استقبل الملك عبد الله بالبشر والسعادة ، وقال له : حقا إنك ولد ذكي ، لقد أتقنت تعلم السحر وتفوقت به .
قال عبد الله : كلا أيها الملك لم أتعلم السحر ، إنما قتلت الأفعى بإرادة الله ربي لما دعوته وتضرعت إليه .
قال الملك : وهل لك رب غيري ؟
قال عبد الله : نعم ، ربي الله ، وأنت بشر مثلنا لا فرق بيننا وبينك ، فكيف تكون ربا وأنت مخلوق ضعيف .
غضب الملك من كلام عبد الله ، ونادى حرسه فأمسكوه وقيدوه ، وقال له : من أين تعلمت هذا الكلام ؟ إنه ليس من تفكيرك ، أخبرني من علمك هذا الكلام ؟ إنه من أعدائي ، أليس كذلك ؟ لن تترك حتى تخبرني أو أعذبك عذابا شديدا ، ثم أعطى الأمر للحراس أن يجلدوه ، وما إن سمع الحراس أوامر الملك حتى انهالوا عليه ضربا بالسياط الغليظة ، ولم يحتمل جسم عبد الله لسع السياط ، إن جسمه ما زال غضا لم تكتمل فيه قوة الشباب ، وكذلك فإن تربيته على الرفاهية لها تأثير أيضا في عدم تحمله التعذيب ، لذلك باح بالسر ودل الملك على مكان الشيخ ، وانطلق الجنود إلى الكهف وهم مدججون بالسلاح ، فلما وصلوا الكهف دخلوه وهم يشرعون الحراب ، حتى احتاطوا الشيخ من كل جانب ، فنظر الشيخ وعلم أن عبد الله قد وشى به ، فهز رأسه واستسلم لقضاء الله ، ثم سار معهم مكبلا بالأغلال ، حتى طرحوه أرضا بين يدي الملك ، ونظر الملك إلى الشيخ فعرفه ، إنه من المعارضين لدعواه ، فقال له الملك ساخرا : هذا أنت أيها الجاحد لنعمتي ! لقد أفسدت بخروجك عن طاعتي أخلاق الجيل الصاعد من الشباب ، ولو تركتك تفعل ما تريد فستفسد علي الناس ، هيا أيها الجنود أدبوه بالسياط حتى يقر بألوهيتي ، وانهال الجنود على الشيخ المسكين ضربا بالسياط ، والشيخ صامت إلا من تمتمات تدل على أنه يوحد الله رب العالمين ، ثم أوقف الملك عنه ضرب السياط ، وقال له : أما زلت على رأيك ؟ هز الشيخ رأسه أن نعم ، فغضب الملك وركل الشيخ برجله ثم قال للحرس : هاتوا المنشار وأنشروه نصفين ، فأنا لا أريد أن أرى رأسه المعاند سليما . وأحضر الجنود المنشار وربطوا الشيخ من يديه ورجليه ، وشدوا كل طرف إلى عمود ثم نشروه نصفين .
تألم عبد الله لهذا المنظر ، وثار على الملك وقال له : أنت طاغية جبار ، أنت عدو الشعب ، فأمسكه الجنود وضربوه ثم طرحوه أمام الملك .
قال الملك : لقد رأيت ما فعلنا بهذا الشيخ ، وإن لم ترجع عن أفكارك المخالفة لنا فسأصنع بك مثل ما صنعت به ، لكن عبد الله ظل باقيا على مبدئه ، فاغتاظ منه الملك وقال لجنده : اذهبوا به وألقوه مكبلا في البحر .
وأنطلقوا به نحو البحر، وأركبوه زورقا وتوسطوا به البحر، ولما حملوه وهموا بإلقائه ، دعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين ، فانقلبت السفينة وغرق من فيها ، ونجا عبد الله بمفرده ، فرجع إلى الملك وقال له : عليك أن ترجع عن ظلمك وأن تؤمن بالله تعالى ربا لك ، لقد أغرق الله جنودك وأنقذني من الغرق ، فغضب الملك الجبار ثانية وأمر بحمله إلى أحد الجبال المرتفعة لإلقائه من فوقها ، وحمله الجنود ، وانطلقوا به نحو الجبل ، ولما وصلوا إلى قمته وهموا بإلقائه ، دعا ربه أن ينجيه من القوم الكافرين ، فاهتز الجبل وسقط الجنود من فوقه إلا عبد الله فإنه نجا ، ثم عاد إلى الملك يأمره بترك الكفر والتوبة مما فعل والعودة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد ، لكن الملك أصر على كفره وطغيانه .
كيف أقتله ؟ :
وحار الملك وجن جنونه وهو يقول : أي شيطان هذا الغلام كيف أقتله ؟ قال له عبد الله : هل أدلك على طريقة تقتلني بها ؟
أجاب الملك بلهفة : وما هي ؟
قال عبد الله : تصلبني على عمود ، ثم تحمل سهما من كنانتي ، وترميني به أمام الناس وأنت تقول : باسم الله رب هذا الغلام ، عند ذلك تقتلني .
فرح الملك لأنه عرف السر ، فجمع الناس على عجل ، وجمع حوله الأتباع والأعوان ، وقال لهم : سترون قوتي اليوم ، وسترون ضالة هذا الغلام أمام سطوتي وجبروتي .
واحتشد الاف الناس ليروا المشهد العجاب ، لقد ربط عبد الله ، وشد وثاقه تماما إلى عمود طويل ضخم في ساحة واسعة ، وأحاط به عدد كبير من جنود الملك المدججين بالسلاح ، ونصب الملك تجاهه منصته الملكية الفخمة ، وهي تزهو بالزينات والأعلام ، ورفع نفسه على كرسي فخم عظيم ، وارتدى لباس الحرب والميدان وعلق على رقبته القلائد الذهبية ، ورفع فوق رأسه التاج المرصع بأغلى الجواهر .
ثم حانت ساعة الصفر عندما ترجل الملك من فوق منصته ، ومشى وئيدا رافع الرأس تجاء عبد الله، فأفسح له الجنود الطريق ، واقترب من عبد الله وهو ينظر إليه تارة ، وإلى الجموع المحتشدة تارة أخرى ، بكل صلف وكبرياء ، وأخذ من كنانة عبد الله سهما ووضعه في قوسه ، ثم ابتعد للوراء قليلا وصوب السهم إلى صدع عبدالله ، وشد الوتر ثم أرخاه ، وتردد لحظة ، إنه يخشى أن يكون عبد الله قد خدعه فيفشل أمام شعبه ، لكنه تذكر فعل عبد الله وخطره ضد ملكه ، فشد الوتر بقوة وصاح في الناس قائلا : انظروا إلى مصير من يخالف أوامري ويعصيني ، انظروا إلى هذا الغلام المتمرد على أمر ملكه ، وزاد من قوة صوته وهو يقول : "بسم الله رب هذا الغلام" . وأطلق السهم فجاء السهم في صدع عبد الله، وانبجس منه الدم الذكي ، فتبسم عبد الله ثم فاضت روحه إلى بارئها ، لتلتقي في جنان الله مع الصديقين والشهداء والصالحين .
وما إن سمع الناس ما قاله الملك الذي كان يدعي الألوهية ، حتى تبينوا الحقيقة ، إن الملك ليس هو الرب كما يدعي ، لقد قال بلسانه : بسم الله رب هذا الغلام ، ونظر بعضهم إلى بعض ، ثم صاحوا بصوت واحد : آمنا برب هذا الغلام ، وكفرنا بالملك ودعواه الكاذبة ، ثم هاجوا واضطربوا وهجموا على منصة الملك ليقتلوه ، فدافع عنه جنوده وحراسه ، وصدوا الناس الذين لا يحملون معهم أي سلاح ، وأمر الملك جنوده بالقاء القبض عليهم جميعا ، لقد ظن الملك أنه سيتخلص من عبد الله بسهولة عندما يقتله بهذا الشكل ، لكنه أخطأ الطريق ، وبرهن على جهله ، إنه لا يصلح أن يكون حاكما فكيف به يدعي الألوهية ؟ ألا سحقا لهذا الملك الضال ، لقد ثار عليه ألاف الناس ، وانقلبت عليه كل شعوب اليمن تطالب بقتله أو عزله ، وهكذا استطاع الشهيد عبد الله ، أن يحرك الشعب الخائف ضد الملك الطاغية الجبار ، بعد أن ضحى بنفسه رحمه الله .