قصص تاريخية قصة العبقري الشجاع من اروع القصص للاطفال

قصص تاريخية قصة العبقري الشجاع من اروع القصص للاطفال

قصص تاريخية

قصص تاريخية قصة العبقري الشجاع من اروع القصص للاطفال

نقدم لكم اليوم قصة من اروع القصص للاطفال وهي من قصص تاريخية وعنوان القصة العبقري الشجاع ، نتمنى أن تنال رضاكم ، ونستفيد منها.

عمار في دمشق

عمار طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره ، تعلم في مدارس دمشق ، فحفظ القرآن ، وقرأ في صحيحي البخاري ومسلم ، فحفظ كثيرا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعلم النحو والحساب على عادة أبناء ذلك الوقت ، الذين كانوا يهتمون بهذه العلوم ، وكانت المدارس السلطانية التي أنشأها السلطان نور الدين الزنكي ، ومن بعده السلطان صلاح الدين الأيوبي ، هي التي تزود الناس بالعلم وتشجع عليه ، وكانت تعطي مكافات مالية للطلاب الدارسين ، مساعدة لهم ، وتشجيعا على طلب العلم ، وانتشرت هذه المدارس في أحياء دمشق ، وأقبل الطلاب عليها للتعلم ، وشهد ذلك العصر تقدما واضحا في شتى مجالات العلوم ، من فقه وتفسير وعلوم القرآن والحديث والحساب ، والطب والفلك والصيدلة والكيمياء ... إلخ ، ورافق هذا العلم تقدم في الصناعات ، فازدهرت صناعة الغزل والنسيج ، والأدوية والأواني النحاسية والزجاجية والمعدات الحربية ، وقد نالت دمشق شهرة في ذلك الوقت بصناعة السيوف ، من حيث الإتقان والصلابة ، وكان عمار يداوم على المدرسة من الصباح الباكر وحتى صلاة الظهر ، فيعود للبيت لتناول الغداء مع أهله ، ثم يصطحبه والده بعد صلاة العصر إلى مختبره ، فيمضي معه عدة ساعات قبل أن يعودا إلى البيت، وكان والد عمار يعمل في الكيمياء ، وتسمى في لغة ذلك العصر " الزاج " فيقوم بتركيب الأدوية والعقاقير الطبية والمراهم ، ويستخرج المحاليل الحمضية ، وغير ذلك من أنواع المواد الكثيرة ، ولقد حاول كل من عمل في مجال الكيمياء ، أن يحصل على الذهب من معدن الحديد بطريقة علمية ، فبعضهم أفنى أمواله في التجارب دون تحقيق المراد ، كما هي قصة خالد بن يزيد الأموي ، وغيره من علماء الكيمياء ، لكن هذه المحاولات التي أخفقوا فيها ، فلم يوفقوا في صنع الذهب من الحديد ، أعطتهم الصبر والجلد ، وكشفت لهم عناصر جديدة لم يكونوا يعرفونها من قبل ، فازدادت خبرتهم في هذا المجال ، وخدموا العلم من حيث لا يشعرون ، وكان كلما كشف عالم عن شيء جديد في مجال الكيمياء ، سارع بقية العلماء للتزود من هذه المعلومات والطريقة التي تم بها هذا الكشف ، ولقد استهوت النار اليونانية الكيميائيين المسلمين أيضا ، فحاولوا اكتشاف طريقة صنعها ، خصوصا عندما رأوا أثرها في الحروب ، فقد أحرقت كثيرا من سفن المسلمين المحاصرة للقسطنطينية ، وكانت سببا في فشل فتح هذه المدينة أيام معاوية بن أبي سفيان ومن جاء بعده . لذلك دأب علماء المسلمين ، للتوصل إلى معرفة سر تركيبها ، فعرفوه بعد جهد ، ثم شاع هذا السر وأصبح صنعها ميسرا لكثير من الناس ، ثم ارتقى العلم أكثر ، وحاول العلماء أن يصنعوا مواد مضادة لهذه النار ، بحيث تبطل مفعولها ولا تؤثر فيها ، فنجحوا في ذلك أيضا ، ولكن ظل هذا السر عند عدد محدود من الكيميائيين .

وكان والد عمار من أوئك الكيميائيين القلة الذين عرفوا سر المواد المضادة للنار اليونانية ، ثم حاول أن يخترع نارا تحرق المواد المضادة للنار ، وكان هذا في غاية الصعوبة ، لذلك بدأ يعد تركيبات كيميائية عن علم ودراية ، ويجربها في هذه المواد فيفشل ، ثم يغير في التركيب فيفشل ، وطالت تجاربه كثيرا واستغرقت وقتا طويلا ، فشغلته عن كل شيء غيرها ، وأصبح التوصل إلى هذه النار يأخذ عليه تفكيره في الصباح والمساء ، لكنه لم يكن ييأس ، ولم يتأثر بكل محاولات الفشل بل كان يزداد ثقة وخبرة في هذا العلم .

الفرحة :

كان عمار يلاحظ أعمال والده بعين ذكية وقلب مدرك واع ، فقد أحب الكيمياء مثل والده ، لأن فيها متعة واكتشافات مثيرة ، وكان والده يحضره معه إلى المختبر ليكون مساعدا له ، فيناوله ما يحتاج إليه من مواد وأدوات ، وكان أحيانا يعهد إليه بتركيب بعض الوصفات الطبية البسيطة ، بعد أن يعطيه أسماء المواد ونسبة كل مادة ووزنها ، فيقوم بهذا العمل رأضيا فخورا ، كما كان يقوم ببيع بعض المواد الكيميائية إلى الزبائن في حال انشغال والده بتجربة تحتاج إلى المراقبة المستديمة ، وفي ذات يوم ، بينما كان عمار في المختبر يساعد والده ، إذا بالوالد يصرخ من فرحته بشكل مفاجيء ، لقد نجحت ، لقد نجحت ، حمدا لك يا رب على هذا التوفيق ، وبدا مسرورا في غاية السعادة ، فأسرع إليه عمار فرحا ، وسأله عن سبب الفرحة الغامرة والنجاح الموفق ، فقص عليه والده قصة النار اليونانية التي أصبحت مخترعا قديما ، فقد طورها العرب المسلمون حتى أصبحت أعتى ضراما وأشد إحراقا ، وأراه والده النار اليونانية وقوة إحراقها ، ثم حولها إلى المواد التي لا تؤثر فيها هذه النار فلم تحرقها ، فأحضر النار العربية فأحرقتها ، فتعجب عمار من هذه النار واهتم بها كثيرا ، وحصل من والده على سر تركيبها ، ثم أصبح يصنعها بنفسه ، ويتسلى بمنظرها وهي تلتهم الأشياء بعنف .

سر عمار لأنه حصل على أسرار هذه النار التي طورها والده ، كما سر بعقلية والده وعبقريته ودأبه ، ووعد والده أن يكون مهتما بالكيمياء مثله تماما .

أعداء المسلمين :

طمع الصليبيون في بلاد الشام ، وأرادوا أن يستولوا على القدس ، فجهزوا حملات كبيرة ضد المسلمين ، ونجحوا في نهاية القرن الخامس الهجري سنة ٤٩٢هـ في الاستيلاء على مدن الساحل من بلاد الشام ، ثم زحفوا نحو القدس واستولوا على هذه المدينة المهمة عند المسلمين . فقد قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " ولقد أسري بالرسول ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فقال الله تعالى : ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ فالله تعالى جعله مباركا ، فجاء الصلببيون فاحتلوه ، ودنسوا حرمته ، وهددوا بقية مدن الشام ومصر بالاحتلال، فحاصروا حلب ودمشق ، كما حاصروا دمياط والمنصورة في مصر، وهاجموا الإسكندرية عدة مرات ، وقد كان المسلمون عند بدء الهجوم الصليبي - في نهاية القرن الخامس الهجري - في غاية الضعف والتفكك ، ثم هيأ الله تعالى لهذه البلاد من يحفظها ؛ من القادة والمجاهدين المخلصين الذين جاهدوا لإعلاء كلمة الله تعالى ، وحماية الدين والأعراض والبلدان من شر الصليبيين الحاقدين على الإسلام وأهله ، فكان المجاهد السلطان نور الدين آل زنكي ، ثم السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي ، الذي استرد من الصليبيين القدس وعكا ، ومدنا كثيرة غيرهما ، وأحدث فتح عكا والقدس عند قادة الصليبيين ، هزة عنيفة في أوربا وغيرها ، فدعوا شعوبهم إلى التطوع والتجنيد ، لإعادة احتلال هاتين المدينتين ، والسيطرة على كافة بلاد الشام ومصر .

مدينة عكا :

تعد مدينة عكا في ذلك الوقت أي سنة ٥٨٠هـ من أعظم الموانىء الحربية الحصينة على البحر المتوسط ، فهي مرتفعة على التلال ، ولها قلعة في منتهى المناعة والقوة ، تحيط بها أسوار شاهقة قوية ، كما تحميها التلال من جهة البر ، وتشكل خطوطا دفاعية قوية ، وتعد عكا مفتاح البلدان الداخلية التي تليها وخصوصا القدس فالذي يستطيع اختلال عكا ، يمكنه أن يقيم رأس جسر للتوسع والامتداد نحو القدس ، ويأتيه المدد العسكري من البحر بسهولة ويسر ، لذلك كانت جهود الصليبيين مركزة نحو عكا ، فحشدوا الجيوش البرية والأساطيل البحرية من كل بلدان أوربا ، واتجهوا نحو عكا لاحتلالها ، أما المسلمون فقد فرحوا بالنصر واسترداد عكا ، وحضر كثير من المسلمين لزيارة علا والاطلاع على آثار الحرب ، وما أحدثته في المدينة ، ورؤية أسوار عكا وأبراجها العالية ، والاستمتاع بما يشرحه بعض القادة والجنود عن قصة فتح عكا وقهر حصونها ، وبراعة المسلمين في فتحها واستعادتها ، وحضر عدد من أهالي عكا الذين كانوا قد غادروها يوم وقعت تحت السيطرة الصليبية ، وفروا من جحيم الأعداء ، تاركين بيوتهم ومنازلهم وأموالهم ، طالبين النجاة بأزواجهم وسلامة عقيدتهم . وحضر عدد من المسلمين للاطمئنان على أقربائهم الذين بقوا على قيد الحياة ، وتحملوا السنين الطويلة من المعاناة تحت وطأة الاحتلال ، وكان لعمار عمة في عكا ، فقصدها أبوه وصحب معه عمارا ، فزار عكا وأقام مع أبيه أياما عند العمة التي ما زالت على قيد الحياة ، فمكثوا عندها يواسونها ، ففرحت بأخيها وابنه عمار ، واستأنست بهما بعد وحشة طويلة ، وهناها بعودة عكا للمسلمين ، وخلاصها من الاحتلال ، وشرع الناس في إعمار المدينة وتحصين أسوارها من جديد ، فعادت إليها الحياة من جديد بعد الحرب القاسية ، فقد اكتظت بالعمال والبنائين والتجار ، وقصدتها السفن التجارية من كل مكان ، وأمنت حولها طرق المواصلات البرية ، ففتحت أبوابها للقوافل والبضائع .

الرحيل :

عاد والد عمار إلى دمشق ، تأركا عمارا عند عمته التي شأخت وكبرت ، ليقيم عندها ويخدمها ، فقد رجته أن يبقي عمارا عندها ، ليؤأنس وحشتها ويقضي لها حوائجها ، وأنه لا بأس عليه أن يقيم عندها عدة شهور ، ثم يعود إلى دمشق ، فقد غدت الطريق آمنة ، ولا خوف عليه من أحد .

هز والد عمار رأسه بالموافقة ، لكنه استدرك فقال : لا تؤخريه ، فأنا بحاجة إليه أيضا ، فهو يساعدني ويتعلم مني صنعة الكيمياء ، وتركيب الأدوية ، ثم ودعهما وغادر عكا إلى دمشق .

عاش عمار في عكا عدة شهور يخدم عمته ، ولكنه كان لا يجلس في البيت كثيرا ، فكان يخرج إلى البحر ليسبح فيه ، كما كان يزور معالم علا وأسوارها وأبراجها ، ويرى العمل فيها ، كما كان يرى فرق الجيش وهي تقوم بالتدريب والاستعداد لصد أي هجوم على عكا ، فشاهد الرماة وهم يتدربون على رمي السهام وإصابة الأهداف ، ورأى نقل الحجارة البركانية المدورة الشكل وتجميعها في الأبراج ، وذلك لاستعمالها في المنجنيق الذي يرميها على سفن الأعداء ، ورأى نصب الحراقات على الأسوار ، وهي التي تقذف النار الملتهبة ، وتصب الزيت الغالي ذي الحرارة المرتفعة على من يريد تسلق الأسوار ، كما زار المرفأ ورأى حركة إصلاح السفن الحربية وبناء سفن أخرى ، فسر كثيرا من هذه الحركة ، وأعجب بهذا النشاط والاستعداد ، وعلم أن حفظ البلاد يحتاج إلى جهد وتعب ، ويحتاج إلى جهود أبناء الأمة جميعا ، حيث يقدم كل فرد خبرته واستطاعته .

حصار عكا :

وفي صبيحة يوم صيفي هادي ، لا رياح فيه ولا ضجة لأمواج البحر الصاخبة ، حين تتكسر على الشاطىء ، استيقظ الناس في عكا على أصوات طبول الحرب ، فأطل الناس من نوافذ دورهم وأسطحة منازلهم ، فوجدوا الجنود يركضون ويتجهون للساحة العامة للاجتماع ، وقد لبسوا دروعهم ، وحملوا أسلحتهم ، وهم يكبرون ويهللون ، فخرج عمار إلى أحد الشوارع ليستطلع الخبر ، فعلم أن أساطيل الإفرنج قد أحاطت بعكا ، وهي تملأ البحر ، وأن الطرق البرية قد قطعت ، ونزل فيها الأعداء أيضا ، وأن المدد يتوالى من البر والبحر ، فالمدن التي ما زالت في أيدي الصليبيين ، مثل صيدا وصور وطرابلس وإنطاكية ، قد دفعت بالجيوش البرية واستقبلت أيضا مددا من أوروبا ، قادما عن طريق القسطنطينية ، كما دفعت أوروبا بالجيوش بحرا في سفن كثيرة ، وتجمع كل هؤلاء أمام عكا يريدون احتلالها ، ليصلوا بعدها إلى القدس ، لقد أصبحت عكا بهذا الحصار معزولة عن بقية المدن الإسلامية ، حزن عمار لهذا الحصار المفاجيء ، وتذكر أهله في دمشق ، فقد أصبح الوصول إليهم مستحيلا ، وبدأ يفكر في طريقة للإفلات ، ولكن فأت الأوان ، وأصبح مصيره مرهونا بمصير كل الموجودين في عكا ، فعاد يلوم نفسه على تأخره عند عمته ، ثم تذرع بالصبر ، ودعا الله أن يكشف هذه الغمة ، وأسرع إلى عمته فأخبرها بما يجري في عما من أحداث ، فخافت عليه العمة وضمته إلى صدرها طويلا ودموعها تبلل خديها ، وتتساقط على رأس عمار ، أشفق عمار على عمته وقال لها : ما لك يا عمتي ؟ لكنها ظلت صامتة وسرحت في تفكير طويل ، لقد تذكرت قبل سنين طويلة حصار الإفرنج لعكا ، ودخولهم الوحشي لهذه المدينة ، حيث استباحوا فيها كل شيء ، فقتلوا وأحرقوا ونهبوا وسجنوا ، حتى أصبحت المدينة ، مدينة أشباح ، لا ترى فيها إلا الحرائق والموتى في كل مكان منها ، وتذكرت أيضا مقتل أخيها الصغير " منذر " وقد كان في مثل من عمار ، فقتلوه ولم يراعوا صغره ، فخافت العمة أن تسقط عكا ثانية ، ويلاقي عمار ما لاقاه " منذر " من قبل ، فبكت وصاحت : يا إلهي الطف بنا ، واكشف عنا هذه الغمة ، وانصر جيوش المسلمين .

المقاومة :

استعد أهل عما للحصار الطويل ، وللمقاومة بروح عالية دون أن ترهبهم قوة الأعداء ، فأخذ الجنود مواقعهم على الأسوار ، ولبس الوالي " قراقوش " لبأس الحرب ، ودعا الناس جميعا للصمود ، كما دعاهم إلى الاقتصاد في الطعام والشراب ، استعدادا لمقاومة طويلة ، قد تستغرق شهورا ، وربما سنة أو أكثر ، وقام الصليبيون بالهجوم الأول على عكا ، وهو بمثابة اختبار لمناعة الأسوار ، ومعرفة القوة عند الخصم ، فردهم المسلمون على أعقابهم ، وألحقوا بهم خسائر جسيمة . ثم نصبوا حول الأسوار منجنيقات كبيرة ، وقذفوا عكا بالحجارة ، لكن منجنيقات المسلمين كانت أقوى منهم ، لأنها كانت متمركزة على الأسوار ، فتمكنت من إصابة منجنيقات الأعداء وتدميرها ، واستمر الحصار طويلا ، ونوع الإفرنج في طرق الهجوم وأساليبه ، فلم يظفروا بشيء، وفي كل مرة يصابون بأفدح الخسائر ، ومن جهة البر هاجمهم صلاح الدين الأيوبي لكي يخفف الحصار عن عكا ، ويمدها بالمؤن والسلاح ، لكن صلاح الدين لم يحرز نصرا على الأعداء ، ولم يستطع إزالتهم من حول الأسوار ، فقد حفر الإفرنج الخنادق وتمركزوا فيها بإحكام ، وجعلوها تفصل بينهم وبين صلاح الدين .

وكان المدد يأتي إلى الأعداء من جهة البحر فيعوضون به كل نقص ، سواء أكان من الرجال أو السلاح أو الطعام ، وظل جيش الأعداء البري محافظا على قوته ، ثم عمل الصليبيون حيلة جديدة ، فصنعوا ثلاثة أبراج خشبية كبيرة ، يبلغ ارتفاعها مقدار ارتفاع أسوار عكا ، وشحنوها بالرجال والسلاح وحملوها على عجلات كبيرة ، وكسوها من الخارج بجلود مشبعة بمواد لا تحرقها النيران ، ولا تؤثر فيها حتى النار اليونانية ، ودفع الأعداء هذه الأبراج باتجاه الأسوار .

واقتربت ببطء تحت حماية الأعداء ، فتلقاها المسلمون بالسهام النارية وحجارة المنجنيق ، فلم تؤثر فيها ، واستمرت بالتقدم حتى وصلت إلى الخندق المحيط بأسوار عكا ، وكان على الأعداء أن ينتظروا فترة من الوقت لردم الخندق بالحجارة والتراب ، ثم يدفعوا الأبراج لتلتصق بالأسوار وبذل أهل عكا كل ما في وسعهم لتدمير الأبراج ، ومنع الأعداء من ردم الخندق ، وقالوا : إن تقترب منا هذه الأبراج فسوف تسقط عكا بأيديهم ، ورفعوا الأمر على عجل إلى والي عكا ، فجاء مسرعا وصعد السور وراقب هذه الأبراج بنفسه ، وجرب فيها السهام النارية فلم تؤثر فيها ، بل انطفأت جذوتها بمجرد ملامستها للأبراج ، وقال : ما هذه الداهية التي رمانا بها الإفرنج هذا اليوم ؟! فأسرع الوالي وغادر الاسوار إلى قصره ، وطلب اجتماعا عاجلا لبحث قضية الأبراج ، وحضر القادة وأهل الرأي ، وتدارسوا الأمر ، واتفقوا على استدعاء صناع النار اليونانية لعمل نار تحرق هذه الأبراج ، وأخذ كافة احتياطاتهم أيضا بتقوية الأسوار ، وزيادة عدد الجنود عند المكان الذي ستصل إليه الأبراج .

المحاولة الأولى :

خرج المنادي الذي كلفه الوالي بالبحث عن صناع النار اليونانية ، وطاف في شوارع عكا وساحاتها العامة ، معلنا عن رغبة الوالي في دعوة صناع النار اليونانية المهرة ، للحضور إلى القصر لمهمة عاجلة تتعلق فيها سلامة المدينة ، ومن هذا المنادي عرف الناس في عكا خبر الأبراج الخطيرة ، وأسرع من كان موجودا في عكا من الكيميائيين - وكانوا قلة - إلى والي عكا ليقدموا إليه خبرتهم في هذا الشأن ، وسمع عمار أيضا صوت المنادي فذهب إلى الوالي ليقدم خبرته في صنع النار الحارقة ، وأمام قصر الوالي اجتمع الكيميائيون ، وكان بينهم عمار ، وعند الدخول إلى الوالي ، أدخل الحاجب الرجال ومنع عمارا من الدخول ، وقال له : أنت صغير ولا علم لك بأسرار النار ، والوالي ليس عنده وقت يضيعه معك . حاول عمار أن يعرفه بنفسه وبصنعة أبيه في دمشق ، فلم يستمع الحاجب إليه، وأغلق الباب في وجهه .

حزن عمار لهذه المعاملة القاسية في هذا الظرف العصيب ، لأن البلد بحاجة إلى جهود الجميع ، كبارا وصغارا ، لكنه طمأن نفسه بقدرة الرجال الذين دخلوا إلى الوالي ، وتمنى لهم التوفيق في مهمتهم ، ثم عاد إلى بيت عمته وعنده رجاء كبير بقهر أبراج الأعداء .

والتقى الوالي بثلاثة رجال من الكيميائيين ، ولم يكن في عكا غيرهم ، وشرح لهم حرج الموقف بسبب الأبراج التي لا تؤثر فيها النار ، ورجلهم أن يفعلوا شيئا سريعا ، ويعدوا نارا لإحراقها .

شمر الرجال الثلاثة عن ساعد الجد ، ووعدوا الوالي بعمل نار تحرق الأبراج ، فانطلقوا إلى معاملهم ، ثم عادوا ومعهم قدور فيها تركيب النار اليونانية ، وصعدوا أسوار عكا مقابل الأبراج التي ما زالت واقفة تحاول التقدم ، وعساكر المسلمين يصدونها ، ويمنعون الإفرنج من ردم الخندق ، إلا أن محاولة الإفرنج وتصميمهم على ردم الخندق مستمرة ، وقد ألقوا فيه - رغم خسائرهم - كميات لا بأس بها من الحجارة والتراب .

واستدعى الوالي عددا من الرماة المهرة وأعطاهم المواد الحارقة ، فأشعلوها ورموها على البرج القريب ، لكنهم فوجئوا بخمود النار فور ملامستها للبرج ، كما سمعوا عقيب ذلك قهقهات جنود الإفرنج الموجودين في البرج ، إنهم يسخرون من المسلمين ، ومن نارهم التي لا تحرق البرج ، وحاول المسلمون مرة ثانية وثالثة حتى نفدت المواد التي أحضروها ، وذهبت كلها هباء دون فائدة ، وبدأ جنود الإفرنج يطلون برؤوسهم من الأبراج ، ويسخرون من المسلمين ويهددون ويتوعدون ، قلق الوالي من هذه الأبراج ، وعدها أخطر مشكلة تواجهه في حياته ، وقال للكيميائيين : إن ناركم لا تؤثر في هذه الأبراج كما ترون، عليكم أن تعدوا نارا أقوى منها ، فقالوا له : هذا مبلغ علمنا ، وهذه هي النار اليونانية التي عرفناها .

المحاولة الثانية :

انتشر خبر الأبراج في عكا ، كما انتشر خبر مناعتها ضد النيران ، فخافوا وتوجسوا منها شرا ، وعلم كذلك عمار فأخبر عمته بما جرى ، فقالت له : الآن جاء دورك يا عمار ، ومصير البلد في خطر ، وعليك أن تقابل الوالي وتعرض عليه مساعدتك ، وإياك أن ترجع إذا صدك الحراس ، حاول مقابلة الوالي ، وإياك واليأس .

تشجع عمار من كلام عمته ، ووعدها بأن يبذل كل جهده لكي يقابل الوالي ، فجهز أوراقه وانطلق نحو قصر الوالي ، والتقى ثانية بالحاجب ، وطلب منه الإذن لمقابلة الوالي ، فقال له الحاجب : أأنت ثانية ؟ انصرف من هنا ، ودع الوالي في همه ، قال عمار : لماذا تمنعني من مقابلة الوالي ؟ إنني أعرف سر النار التي تحرق الأبراج ، فليجربني الوالي ، وبعد جدال طويل قال له الحاجب : سأستأذن لك من الوالي وإن كنت واثقا من فشلك يا بني .

دخل الحاجب القصر وأخبر الوالي خبر عمار وإصراره على مقابلته ، فقال الوالي : دعني من الأولاد يا هذا ، أما بقي في المدينة غير الأولاد نستعين بهم ؟، لقد أخفق الرجال الكبار في إحراق الأبراج ، اصرفه أيها الحاجب فلا وقت عندنا لمثل هذه المهازل ، وهم الحاجب بالخروج ليصرف عمارا ، بل وربما ليصفعه ، لكن أحد المستشارين قال للوالي : عفوا أيها الوالي لولا أن عند هذا الغلام كفاءة في صنع النار لما عرض نفسه ، إن من رأيي أن ندعوه ونسمع منه ، ونوجه إليه بعض الأسئلة ، ومن أجوبته يبدو لنا علمه من جهله .

داعب الوالي " قراقوش " لحيته ثم قال : لا بأس ، أدخل الغلام . أسرع الحاجب وأحضر عمارا إلى الوالي ، فدخل وسلم على الوالي فقال الوالي : اسمع يا غلام ، إن صنع النار اليونانية التي تحرق هذه الأبراج اللعينة ليست كالنار التي تشعلها في حارتك مع الأولاد وأنتم تلهون وتلعبون ، إنها نار من نوع آخر ، أفهمت ؟

قال عمار : إنني أفهم مهمتي جيدا ، سأصنع نارا عربية تلتهم الأبراج ، وتسري بها سريان النار في الهشيم ، وهنا ضحك الوالي ، وقال : نار عربية ! أرأيت أيها الحاجب ، إن ظني كان بمحله ، إننا أيها الغلام نريد سر النار اليونانية ، وهنا أجاب عمار بكل ثقة : لقد جربتم النار اليونانية فلم تفلحوا ، وأنا أصنع أقوى منها ، لقد علمني والدي سرها ، وإنني أحضرت قائمة بالمواد التي تتركب منها ، ولا شك أنها عند الكيميائيين في عكا ، فالمواد عندهم ، ولكن نسب تركيبها في عقلي ، أحفظها كما علمني إياها والدي ، واستلم الوالي قائمة المواد من عمار ، وألقى عليها نظرة عرف من خلالها صدق عمار ، وأنه جاد وعارف سر النار ، فقال للحاجب : خذ هذه الورقة وامض مع عمار لمصنع السلاح وأعدوا له كل طلباته بسرعة .

النجاح :

خرج عمار مسرعا مع الحاجب ، وأتوه بالمواد التي طلبها ، فركب منها تركيبتين ، وضع كل تركيبة في قدر خاص ، وكتب على كل قدر من التركيبة الأولى رقم (۱) وعلى كل قدر من التركيبة الثانية رقم (۲) وقال للجنود الرماة : أشعلوا فتيل القدر رقم (۱) ثم ألقوه فوق البرج ثم أشعلوا فتيل القدر رقم (۲) وارموه على البرج بعد القدر الأول بضع دقائق ، وذلك لأن المواد في القدر الأول مخصصة لإزالة مفعول المواد التي طليت بها الجلود ، وجعلتها غير قابلة للاشتعال ، أما القدر الثاني ففيه نار قوية تحرق الأبراج والجلود معا .

وقف الجنود على الأسوار ، وقذفوا القدر الأول بعد إشعاله ، فسقط على البرج ، فخرج منه دخان أبيض كثيف ، فقهقه الجنود الصليبيون كعادتهم ، وقالوا : لن تستطيعوا إحراق برجنا مهما حاولتم ، ولسوف نذيقكم الموت ، ها قد عبرنا الخندق وسنصل إلى أسواركم .

خلف المسلمون وظنوا أن القدر الأول لم يؤثر في برج العدو ، فقال عمار : أشعلوا القدر الثاني واقذفوه بسرعة ، ففعل الجنود وقذفوا القدر الثاني ، وما إن وصل إلى برج الأعداء حتى انفجر وأحدث دويا هائلا ، وخرجت منه نار عظيمة التهمت البرج بالأعداء الذين كانوا فيه ، وانقلب ضحكهم إلى صراح واستغاثة ، لكن النار عاجلتهم جميعا ، فسقط بعضهم من البرج ، والنار مشتعلة في ثيابه ، ولم ينج منهم أحد ، وأصبح البرج بعد مدة يسيرة رمادا بمن فيه، وتابع جنود المسلمين إلقاء القدور على البرجين الآخرين ، فدمروهما أيضا ، فكبر المسلمون من فوق الأسوار فرحا بخلاصهم من هذا الخطر المخيف ، وولى الأعداء الأدبار ، وفكوا الحصار عن عكا مؤقتا ، ليدبروا خطة أخرى ، ومكيدة عظمى .

عمار يعود إلى دمشق :

سر الوالي من عمار ، وشكره على عمله البطولي ، وعلى علمه واختراعه ، وطلب منه إعطاءه سر هذه النار ، فكتبها له ، ثم قدم الوالي لعمار كيسا من الدنانير هدية له ، وتقديرا لجهوده ، لكن عمارا رفض أخذه ، وقال : أيها الوالي إنني لم أفعل ذلك من أجل المال ، وإنما فعلته لدفع هؤلاء الأعداء الذين يحاربون المسلمين ، ويودون القضاء على ديننا ، وأرجو من الله تعالى أن يثيبني على ما قدمت ، لكن لي طلب عندكم .

قال الوالي : اطلب ما تريد يا عمار وسألبي طلبك مهما كان .

قال عمار : كنت وعدت والدي أن ألحق به إلى دمشق ، وقد حال بيني وبين السفر ما نزل بنا من الأعداء ، والآن ، وقد رد الله العدو عن البلد الحبيب ، فأرجو أن تيسر لي سبيل السفر إلى دمشق .

قال الوالي : لا بأس ، إنني سأرسل وفدا إلى السلطان صلاح الدين ، لأبلغه خبر الأبراج وقضائنا عليها ، وسترافق الوفد إلى السلطان ، ثم يتولى السلطان توصيلك إلى دمشق ، سر عمار من هذا الخبر، ثم تجهز للسفر ، وودع عمته وانطلق مع الوفد إلى السلطان صلاح الدين ، ولما وصل استقبله السلطان أحسن استقبال ، وشكره على براعته وعبقريته ، ثم قدم له حصانا أصيلا ، وسيفا صقيلا ، وقال له : هذان للعبقري الشجاع ، ثم أوصى به من يوصله إلى دمشق .

فودعه عمار ، وانصرف إلى والده فرحا مسرورا .

اقرأ أيضا

تعليقات