قصص حسن الخلق مع الناس مع قصة بعنوان موعد الإفطار

قصص حسن الخلق مع الناس مع قصة بعنوان موعد الإفطار

قصص حسن الخلق مع الناس مع قصة بعنوان موعد الإفطار


قصص حسن الخلق مع الناس مع قصة بعنوان موعد الإفطار
مع قصة جديدة من سلسلة قصص مكارم الأخلاق وقصة اليوم بعنوان موعد الإفطار من خلال القصة سوف يتعلم الطفل حسن الخلق مع الناس نتمنى أن تنال رضاكم.

قصة موعد الإفطار

بينما كنت أُغلق الدكان امتلأت السماء بالغيوم، وهبت رياح خفيفة في الشارع الخالي من المارّة، فالناس جميعًا في منازلهم وقد بدؤوا بتحضير الإفطار منذ وقت طويل.

انطلقت ومعي حقيبة ملأتها من السوق، وشعرتُ بتعب شديد، أغلقت بعضُ الدكاكين، وبقي حرفيون لم يعودوا إلى منازلهم، كانوا ينتظرون موعد الإفطار.

واستعدت ساحة الخان القديم لقدوم المساء، فبائعو الشراب والفاكهة والخضروات والحلوى واللعب كانوا جاهزين للترفيه والتسوق بعد الإفطار.

وعندما وصلت الجسر شَمَمْتُ رائحة الخبز الصابح، فغيرتُ طريقي ودخلت في الصف، إنه يستحق عناء الانتظار، فهذه الساعات لا مثيل لها إلا في رمضان، وكم كنت أود أن أدعـو بعض أصدقائي ليفطر معي ولكنني كلما خطر لي واحد منهم تذكَّرْتُ أنه مشغول، ماذا أفعل؟

سأفطر أنا وزوجتي وحدنا اليوم.

كنت أمشي هادئ البال وفجأةً استوقفني ملمّع الأحذية قائلا:

- لَمّع حذاءَك يا سيدي؟

تباطأت خطواتي، ونظرتُ إليه بتمعن، فإذا هو صبي داكن البشرة، هزيل، مطلي بالدهان، نظرت إلى حذائي فإذا به نظيف لا يحتاج إلى تلميع، لكنني سارعتُ دون تفكير، ووضعت الحقيبة جانبًا، وقدمي اليمنى على الصندوق، ثم قلت له وهو يلمع حذائي:

- هل لديك متسع من الوقت؟

لم يفهمني في البداية، ثم نظر إلى المئذنة قائلا:

- لم يؤذن بعد.

وبدأ يعمل بسرعة، كان يثني سروالي ويجاذبني أطراف الحديث قائلا:

- لا تقلق يا عم حليم، سألمّع حذاءك فورًا، إنك جديد على المنطقة أليس كذلك؟

العم حليم:

نعم، أنا هنا منذ شهر، ما اسمك؟

- كنعان.

بدأ يتحدث بنبرة خاصة، انتهى من خاصة، انتهى من التنظيف بالفرشاة، كان منهمكًا في عمله، ولاحظت أن ريقه قد جف ولم يعد يقدر على العمل، فعرفت أنه جائع، فسألته: هل أنت صائم؟

أخرج الدهان من الصندوق، وتوقف ثم انكب على عمله وسرعان ما قال بصوت خافت:

- نعم، أنا صائم.

- ماذا يعمل والدك ؟

- يعمل سائقا، وقد اشترى شاحنة جديدة وذهب بحمولة إلى مدينة قونية.

ثم بدأ يحدق في فروع شجرة الدلب مرة وفي الفضاء مرةً أخرى، كان يبدو كمن يحمل في قلبه الكثير من الهموم التي أَنسَتْهُ جوعه، ثم حول نظراته الكئيبة إليَّ قائلا:

- قدمك الأخرى يا سيدي.

بدلت قدمي وقلت له:

- أما تذهب إلى المنزل الآن!

- لا أذهب؛ فزبائني يتزايدون بعد المساء.

- مسح حذائي بقطعة قماش نظيفة، فسألته:

هل انتهيت؟

نظر إليَّ وعيناه تتلألآن، ثم قال:

- لقد دهنته بأفضل طلاء، لن تجده في أي مكان آخر.

- أسرع، أنا تأخرت.

فهدأ وبدأ يتباطأ، فقلت له :

- أسرع، سآخذك إلى مطعم الطباخ سامي، لقد صُمتَ اليومَ وإفطارك عليَّ.

انبسطت أساريره وبدأ بإنشاد أغنية شعبية.

رتبت طرفي سروالي، ثم أخرجت النقود، فرد يدي قائلا وكأنه ابن عشرين سنة:

- لا يمكن هذا يا عم عم حليم.

- خُذ يا بني، فهذا حق إخوتك.

نَكَسَ رأسه، ووضعت النقود في جيب سترته.

خيم الظلام واقترب وقت الإفطار، وعندما دخلنا المطعم استند الطباخ سامي إلى الباب، ونظر إلينا ساخرًا، فترك كنعان الصندوق على الرصيف، واتجه نحو دورة المياه، فقلت:

- أطعمه، وعلي الحساب.

امتعض الطباخ سامي وقال:

- لا تفعل ذلك يا حليم، لا تدلله.

- الصغير صائم، دعه يفرح قليلًا.

أغلظ الطباخ صوته قليلا وقال:

- صائم ؟!

جميعهم يكذبون وهل مثل هذا يصوم؟!

- حتى وإن كان يكذب؛ فأنا لم أجد أحدًا أدعوه للإفطار.

قاطعني الطباخ سامي قائلًا:

- إن ما تفعله ليس صوابًا أبدًا.

واتجه نحو طرف الموقد، فقلت له:

- حسنًا، طاب مساؤك، أراك غدًا.

وضع الطباخ سامي الحساء في الطبق، وغسل كنعان يديه وجلس على الطاولة ينتظر الطعام، خرجتُ وأنا أودّع كنعان والوّح له بيدي من بعيد، وفي هذه الأثناء أضاءت المئذنة، وحان وقت الصلاة.

تأخرتُ عن المنزل قليلا، فوجدت زوجتي سميحة تنتظرني على النافذة وهي باختصار، ثم جلسنا معًا على طاولة الإفطار، سَمَّيْنا الله وأفطرنا.

نعم أفطرنا ولكنني كنت حزينًا !

البيـت خـال، والكراسي خالية، شردْتُ بذهني في الذكريات، ثم أفقت مما انا فيه حين وهي قلقة ومتوترة بعض الشيء، ذكرتُ لها ما حدث جاءت زوجتى ووضعت طبق الحساء أمامي، وبدأنا الحديث عن أبنائنا المغتربين.

ثم ذهبت إلى صلاة التراويح، وهكذا انتهى يوم آخر من شهر رمضان المبارك.

وفي اليوم التالي فتحتُ الدكان مبكرًا، وبينما كنتُ أُنظف أركانه جاءني زبونان؛ الحمد لله على هذه النعمة، كنت منهمكا في العمل حتى إنني نسيتُ مُلمّع الأحذية والطباخ سامي، مرَّ الوقت سريعًا وحل المساء، فانطلقت إلى المنزل وقبل أن أصل إلى الجسر الحجري حوَّلَتْ رائحة الخبز مساري مرة أخرى، فاشتريت الخبز، وفي طريق العودة بحثت عن مُلمّع الأحذية، فلم أجده في مكانه، وقلت في نفسي كأنه قد حجل وغادر مكانه كي لا يقابلني، ليتني غيّرْتُ طريقي.

ذهبت إلى المطعم ودفعت الحساب، وتحدث الطباخ سامي بسخرية :

- أين الولد ؟

لقد هرَب !

فقلت متمتما :

- لا.

فأشار بيده قائلا:

- وماذا تتوقع؟

سيهرب بالطبع.

فقلت:

- مع السلامة.

وانطلقت في طريقي.

مرت ليلة أخرى، وبدأت رَبِّكَة الإفطار، وبينما كنت عند المنعطف وذهني شارد، ظهر ملمّع الأحذية فجأة أمامي، ولم يستطع أن يهرب، فكان محرجًا متحيّرًا، فاستجمع قواه ثم قال:

- إنه أنا يا سيد حليم.

- أعرف أنك لم تكن صائمًا، أليس كذلك؟.

فقال وكأنه يكفر عن ذنبه:

- ولكني صمتُ اليوم، حقيقةً صُمْتُ.

في البداية ضاق صدري وامتلأت عيناي بالدموع، ثم عَمَّتْ السكينة قلبي، وشعرت بالارتياح، فقلت:

أنا أصدق كلامك يا ولدي لا تقلق.

انشرح صدره وفرح بمسامحتي له، ثم تابعت قائلا:

- حسنًا، لن تذهب إلى المنزل هذا المساء، أليس كذلك؟

- إنَّ أمي أعدت لي بعض الأشياء؛ وحاول إخراج صُرَّة صغيرة من الصندوق فوضعت يدي على كتفه قائلا:

- خالتك سميحة أعدَّتْ طعامًا لذيذا، ما رأيك؟

لم ينبس ببنت شفة، وتبادلنا النظرات ثم قلت:

- لا تفكر، ستخرج للعمل بعد الإفطار.

اتجهنا سويًا إلى المنزل، ومشينا معا في برودة المساء من طريق مرصوف بالأحجار، ولما وصلنا إلى المنزل كانت أنوار المئذنة قد أُضيئت؛ ولم تلاحظ زوجتي الضيف في البداية، فذهبت إلى المطبخ، ثم ما لبثت أن عادت على إثر الصخب الذي أحدثه ملمع الأحذية، جالت بنظرها، فرأتُ كنعان وهو يحاول أن يضع الصندوق الصغير عند الباب فانفرجت أساريرها وقالت:

- يا إلهي !

لدينا ضيف الحمد الله كنتُ حزينة لأننا سنفطر وحدنا اليوم.

انشرح صدر کنعان لهذا الكلام كثيرًا.

نظرتُ إلى زوجتي وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وكانت تنظر إلى صور العائلة المعلقة على الحائط، لقد كنا عائلة كبيرة جدًّا، ولكن وا أسفاه كل ذهب في طريقه.

وجلسنا على الطاولة، كانت زوجتي سميحة تملأ طبق كنعان كلما فرغت فكان يعجبه ذلك، لكنه لما شبع قال:

- الحمد الله يكفي هذا، لقد شبعتُ.

ولما شبعتُ أنا أيضًا قلتُ : الحمد الله، ثم نهضتُ، فنظرا إليَّ، فقلت:

- سأتوضأ.

توضأت ثم عدت فوجدتهما ينظفان الطاولة معا، ثم تناولنا الحلوى بعد الصلاة، وبدأتُ في الاستعداد لصلاة التراويح.

خرج كنعان إلى الحديقة، بينما كنا أنا وزوجتي نتحدث عنه، فزعنا على صوت ضجّة عند مدخل الباب، إنه صوت الأحذية تتساقط من الرف.

أتينا بسرعة فاندهشنا عندما رأينا صغيرنا ملمّع الأحذية قد قام بإنزال الأحذية وبدأ يتفحصها واحدا تلو الآخر، بدت على زوجتي علامات الانزعاج ولكنها كظمت غيظها ثم قالت

- ما الذي تفعله يا ولدي؟

- سأقوم بتلميعها.

ثم نهض من مكانه وفرز الأحذية، فكانت زوجتي سميحة تحاول أن تصرفه عنها قائلة:

لا تُرهق نفسك يا ولدي، فبعضها لا نستخدمه.

لا يا خالة، سألمّع أحذيتك أولا.

ثم أمسك بحذاء ممزق وجعل يتفحصه قائلا:

- إنه يحتاج لإصلاح.

بدأ كنعان بوضع الأحذية الممزقة في حقيبة، وقال:

- سأذهب بالأحذية يا خالة.

قالت زوجتي:

- أتمنى أن تجد مصلح أحذية.

جهز کنعان مكانا في الحديقة ليلمع أحذيتهم، حاولت بشتى

الوسائل صرفه عن هذا الأمر إلا أنه أصر على ذلك فقلت له:

- لقد أخذوا مكانك لا تتأخر.

فرد ضاحكًا:

- لا تقلق، مكاني محفوظ، لقد اتفقت مع هارون.

ثم وضع الأحذية المتسخة في الحقيبة.

أخذت الحذاء الذي كان بيده ووضعته في مكانه، وقلت:

- أسرع، لأدرك صلاة التراويح، لمّعها غدًا إن شئت.

فأصر على تلميعها وقال:

- حسنًا، سألمّع واحدًا منها فقط.

لم تتحمل زوجتي سميحة هذا الرجاء والتذلل، وأشفقت عليه وقالت:

- انتظر يا زوجي، لا تكسر خاطر الصبي.

تركتهما واتجهت نحو بوابة الحديقة، فكانت زوجتي سميحة تراقب كنعان وهو منهمك في تلميع الأحذية.

يا الله !

لقد كان هذا المنزل مُنهجًا بوجود أبنائنا بيننا، واليوم أحدهم بالجامعة، والآخر بالجيش والفتاتان تزوجتا وغادرتا المنزل، وبقينا وحيدين في هذا المنزل الضخم.

مهلا يا زوجي !

ابنك حسن يطلب نقودًا ولابد لحسين أيضا، لأنه جندي، أرأيت كيف يكبرون ويستقلون عن كنف أبيهم لكنَّ مشکلاتهم لا تزال تلاحقنا؟

يا الله ما أجمل عاطفة الأبوة!

بينما أنا غارق في أفكاري رُفع الأذان، والشارع مزدحم والجامع ممتلئ وساحة المسجد مفروشةً بالسجاد، فبحثت عن مكان مناسب ودخلتُ في الصلاة.

في اليوم التالي طلعت الشمس، وازداد عدد الناس في الشارع؛ لقد تأخرت اليوم، وفتحت الدكان بعد جيراني، فأنا حقًا رجلٌ مُسِنٌ.

بدأتُ يومي المبارك بقراءة القرآن الكريم، فقرأت ساعتين لقلة الزبائن، وأجهدني الصوم حتى غفوتُ أكثر من مرة، ثم استسلمت للنوم وأسندت ظهري إلى الحائط، وإذا بضوضاء في الخارج، فما إن صاح أحدهم حتى بدأ الشجار وعلت الأصوات.

خرجت من الدكان خائفًا مرتبكًا، ورأيت الحرفييـن قـد تجمعوا أمام بائع الشاي، وصاح نجاد لأحدهم:

- كفى اخرج من الدكان !

أما صُهيب فقد أمسك به ثلاثة رجال وكان يقول وهو غاضب :

- لن أخرج، ولن يستطع أحد أن يخرجني!

كان نجاد غاضبًا ويقول بصوت متقطع:

- إنَّه دكاني، ما تركت شيئًا إلا فعلته، لقد سئمت منك، وأصبحت لا تُطاق.

حاول صُهيب أن يتفلَّتَ من المُمسكين به بكل ما لديه من قوة قائلًا:

- اتركوني.

أما نجاد فقد كان يعدّدُ ما ارتكبه صهيب قائلا:

- إنك لم تدفع الأجرة منذ أشهر، ولم تدفع حساب الكهرباء والمياه، لقد طفح الكيل.

ازداد غضب صُهيب لمَّا افْتُضِح أمره أمام الناس وقال:

ماذا تظن نفسك يا هذا؟!

ضاقت أخلاق نجاد الحليم وأراد أن يبدأ في الشجار، لقد تجاوز عمره الخمسين وكان مصارعًا في شبابه، ولو تُرك لتغلب رغم سنه على صهيب فأمسكتُ ذراعه وجذبته بشدة، فصاح:

- اتركني!

ثم التفت إليَّ، وعندما رآني تغير لون وجهه، وندم على ما فعل!

وذهب جمهور من الناس بصُهيب إلى وسط الحارة، ولله الحمد أن المشاجرة انتهت ولم تتفاقم أكثر من ذلك.

عاد نجاد إلى رشده، وبدأ يفكر بهدوء وقال:

- لقد سئمت يا حليم، إنه تأخر عن الدفع عدة أشهر، ولقد تراكمت عليه فواتير ثلاثة أشهر، تخيَّل أنهم جاؤوا إلى بيتي يطالبونني!

ابتسمت له ثم قلت:

- هيا نذهب إلى الدكان لا تشاجر أحدًا وأنت صائم.

- وأي صيام تتكلم عنه؟!.

- المصارع الحقيقي هو من يملك نفسه عند الغضب يا نجاد.

لم يُحِر جوابًا، ونظر إلى وجهي فقلت:

- إنك صائم، لا تنس ذلك.

انطفأ غضبه وعاد إلى صوابه.

تفرَّق الناس رويدا رويدا، وعاد كل شخص إلى عمله، وشعرنا بجوّ الربيع اللطيف فالنسيم عليل، والشمس في كبد السماء والغيوم حولها، تارة تظهر وتارة تختفي، إن النشاط يَفْتُرُ قليلا مع الصيام، ولكن بالمقابل يبتعد الإنسان عن الضغينة والكراهية والغضب شهرًا كاملًا.

قلت في نفسي:

- كم هو جميل شهر رمضان؟ عجبًا كيف يتشاجر الناس فيه؟!

وصلت إلى الدكان كان هناك شاب ينتظرني، فأشرت إلى نجاد ليجلس في الظل وقلت وأنا أمازحه: اذكر الله حتى أرجع، لو لم نكن صائمين لقدمت لك الشاي.

فهز رأسه قائلا:

- إن تغيير المكان جيد يا حليم، تولّ أمر الزبون أنت وأنا سأقرأ الأذكار.

قلت للزبون:

- تفضل يا خليل.

ناولني خليل القائمة قائلا:

- إنَّ صاحب العمل يريد هذه الأشياء.

كانت القائمة طويلة جدا، فقلت:

- يا للهول !

ماذا ستفعلون بكل هذه المعدات؟

- لقد بدأنا في بناء جديد، وغدًا سنأتي بشاحنة ونأخذها.

- حسنًا، سأقوم بعدة اتصالات لأحصل عليها، فإن استطعت أن أجهزها فتعالوا بعد العصر لتأخذوها.

- هذا جيد جدًّا.

ثم خرج.

وبينما كنت أتفحص القائمة خطرت لي فكرة، فركضت وناديت:

- يا خليل، رجع خليل إليَّ فسألته:

- كم شخصًا يعمل معك؟

نظر إليَّ متحيرًا متعجبًا، فأعدتُ عليه السؤال.

- كم شخصا معك في البناء؟

زاد فضول نجاد، ووجه الكرسي نحونا يتسمع إلينا فأجاب خليل

- ستة أشخاص.

- حسنًا، إنني أنتظركم جميعًا يوم الخميس في هذا الأسبوع لتناول الإفطار عندنا في البيت.

اندهش خليل وسأل متحمسًا:

- لكن عددنا كبير!

- لا يا ولدي، ليس كبيرًا ، لقد كانت عائلتنا ستة أشخاص في الأصل.

- آه، لقد انقضت تلك الأيام.

وما زال خليل يتعجب ويقول:

- حقا !

- حقا، حقا.

فسألني نجاد بصوت غليظ بعض الشيء:

- وهل أنتم جميعًا صائمون؟

- ماذا؟!

إنّ من لم يصم في الماضي صام اليوم يا أخي.

استكمل نجاد أسئلته:

- كيف سيعملون وهم صائمون؟

كيف سيتحملون؟

- أنت يا أخي تعمل وأنت صائم!

وهم رجال وليسوا أطفالا!

يا الله !

إن ساعات الصوم تنقص كلما مرّ يوم من رمضان.

ودعوت نجاد أيضًا.

ضحك نجاد وقال :

- حسنًا، سآتي، ولكن عليّ إعداد الحلويات.

قُرَّت عينا خليل، ونسي نجاد المشاجرة التي حدثت منذُ قليل، وانبسطت أساريره، وقال في نفسه:

- شهر رمضان شهر بركة وخير.

قال نجاد:

- وبعد غد سأدعوكم للإفطار عندي.

أخذتُ كرسيًّا وجلست عليه قائلا:

- إنهم مساكين، لقد جاؤوا من أقصى الوطن طلبًا للرزق إنَّ الثواب سيكون عظيما في ذلك اليوم يا نجاد.

حاول خليل أن يقبل يدي، فضحك نجاد، وقال وهو يمازح خليلا:

- انصرف فورًا قبل أن أُغير رأيي.

انطلق خلیل بسرعة عبر الطريق المرصوفة بالحجارة، فتابعناه بأنظارنا حتى اختفى.

وضعتُ يدي على كتف نجاد، ثم أخذتُ الكرسي وجلستُ أمامه قائلًا:

- هيا اشرح لي ما هو سبب المشاجرة؟

- لا تسألني يا حليم، لقد انشرح صدري، لا تذكرني.

- إن شهر رمضان هو شهر اليُسر والبركة، يجب ألا تصوم بطوننا فقط، بل يجب أن تصوم أن تصوم ألسنتنا عن الكلام القبيح واللغو والتذمر والغضب والشجار.

استمع نجاد إليَّ بإنصات، ثم شرد بذهنه، وكلما تحدثت أومأ إليَّ برأسه مصدقًا كلامي.

فتابعت قائلا:

- يجب أن تصوم أعيننا وآذننا وجوارحنا الأخرى أيضًا، فلا ننظر إلى المحرمات، ولا تُنصت إلى ما حرم الله كالغيبة والنميمة واللغو والشائعات.

- أنت على حق يا حليم، ليت صُهيبًا يفهم ذلك.

أسندتُ ظهري إلى الحائط قائلا:

- ماذا ستفعل؟

لقد ضقت به ذرعا سأخرجه من الدكان.

- ليتك تنتظر انتهاء رمضان.

لم يُحر جوابًا، ثم نهض وهو متعب وقال:

- هيا، مع السلامة.

شهق وزفـر ثـم هـم بالرحيل، فسمعنا حينئذ ضجّة الشّراع الحديدي لدكان جارنا جرجس، نظرنا فإذا جرجس يرفع الشراع الحديدي بصعوبة، لقد كنتُ قلقًا عليه فأنا لم أره منذُ ثلاثة أيام، وبعد أن ودعتُ نجادًا، اقتربت من الواجهة الزجاجية، فوجدته يحاول إخراج الصناديق خارج الدكان فساعدته في إخراج أحد الصناديق الثقيلة، فقال:

- أثقلتُ عليك يا حليم، رجاءً لا ترهق نفسك.

- لن أموت من حمل صندوق يا جرجس؛ لم نرك منذ ثلاثة أيام، هل أصابك شيء؟

وضع الصناديق على حافة النافذة واعتدل، ثم تأوه قائلًا:

- لا، لكن كانت الظروف سيئة.

أخرج من جيبه منديلا ومسح عرقه، وأراد أن يتناول زجاجة الماء، فتذكر وقال:

- لا تؤاخذني، لقد نسيتُ أننا في رمضان.

وأخفى زجاجة الماء ببطء.

ثم أخرج من خلف المنْضَدَة مكنسته ذات اليد الطويلة، وبدأ بالتنظيف أمام الباب، تلفت حوله فوجد كل الأركان نظيفةً، فقال والفرحة تملأ عينيه:

- شكرا يا حليم، لقد نظفت أمام دكاننا أيضًا.

- لقد نظفتُ على قدر استطاعتي، أين عاملُك؟

- ذهب إلى القرية وسيأتي غدًا.

أمسكتُ ،ذراعه وجذبته إلى واجهة الدكان، قائلا:

- يبدو أن صحتك متدهورة، ما رأيك أن أطعمك طعامًا لذيذا اليوم؟

- لا، وشكرًا، أنا بصحة جيدة.

لم يقبل دعوتي، إنه يتألم ولكنه لا يُفصح فسألته:

- أما ينبغي أن تُفصح عما بك!

شرد بذهنه، ثم حدق بعينيه في وجهي، وكان متعبًا ومرهقًا للغاية، ثم قال:

- إنَّ زوجتي مريضة، لقد أتيتُ بها إلى المنزل أمس.

وهو أيضًا يعيش مع زوجته مثلي، ولا أحد يساعدهم من قريب أو صديق، فسألته:

- من بجانبها؟

فلم يجب، يبدو أن زوجته وحيدة في المنزل، ثم رفعتُ صوتي قليلًا وقلتُ:

- لماذا لم تخبرني يا جاري العزيز؟

وإلا فما فائدة الجوار؟

سوف أتصل الآن بزوجتي سميحة، وستذهب لمساعدتها، وإذا لزم الأمر فستجد لها في المنطقة من يرعاها.

و هممتُ بدخول الدكان فوضع يده على كتفي، وقد امتلأت عيناه بالدموع قائلا:

- شكرًا يا حليم.

- لا تنزعج أبدا، كل شيء سيصبح على ما يرام.

ودخلتُ إلى الدكان لأتصل بزوجتي، وطلبت منها أن تذهب إلي منزل جرجس، ثم خرجت بعد قليل، فإذا بجرجس قد جلس أمام الباب ينتظر الزبائن.

أخبرته بأنَّ زوجتي سميحة سوف تذهب لمساعدة زوجته فورًا، فانبسطت أساريره، وعدتُ إلى عملي وأنا مرتاح البال فقد أدخلت السعادة إلى قلب جاري.

كثر الناس في الشارع، ونشطت حركة التسوق، ورغم أننا في شهر رمضان؛ فقد منَّ الله عليَّ بالبيع الكثير وبشكل مذهل، فلله الحمد على ما رزق فهو الرزاق ذو القوة المتين.

تأهبتُ لصلاة الظهر وخرجتُ من الدكان، ورأيت أن الحرفيين يتوافدون إلى الجامع التقيتُ بكنعان في فناء الجامع، فناولني حقيبة بلاستيكية كانت بيديه قائلا:

- لقد قمت بإصلاح جميع الأحذية، وبقي حذاء واحد سآتي بعد قليل لألمعه.

ثم دخلنا معًا لأداء الصلاة.

وبعد الصلاة خرجنا إلى الشارع، التفت حولي فإذا بالباعة المتجولين قد اصطفوا على الرصيف الخالي بجانب المطعم، وعندما عدنا إلى الحي، تقابلنا مع نجاد مجددًا، كاد يستشيط غضبًا واحمر وجهه، فأمسك بيدي دون أن ينبس ببنت شفة، وعبر بي إلى الطريق المقابل وكان يجذبني وهو غضبان؛ وصلنا أمام باب الدكان الصغير ، رأيت بعض الأشياء قد انقلبت رأسًا على عقب في الواجهة الزجاجية، فتح الباب، فإذا بكل شيء قد تحول إلى خراب تماما، وهناك بعض الأشياء مبعثرة على الأرض أيضًا.

عمت الفوضى المكان، فطلاء الحائط قد كشط، والسلك قد يتدلى من جوانبه؛ تجوّل نجاد في الداخل، ثم وضع يديه على خصره، وبدا يائسًا للغاية، ثم قال:

- هل يجوز أن يفعلوا بي كل هذا يا حليم؟

لقد كان هذا المكان باب رزقي، ماذا سأفعل الآن؟

نظرت إلى الداخل بعيني بناء، كانت هناك بعض الخسائر، ولكنها لا تكلف الكثير من المال، إنما تحتاج لأيد عاملة فقط، فقلت له :

- سأساعدك بعد الإفطار، إن الباب والنافذة سليمان، على أية حال لو لم نكن في شهر رمضان؛ لقمتُ بطلاء الحائط بيدي.

وبينما أحاول تعزيته من ناحية، بدأت بحساب ما يلزم عمله من ناحية أخرى.

جلس نجاد على مقعد مكسور، وظل يفكر مليا، فقلت:

- هل وجدت صُهيبا؟

- لا، لقد هرب.

- لم يحالفه الصواب قط، انظر یا نجاد.

اعتدل نجاد فإذا هو بكنعان ينظر مندهشًا، فقلت:

- تعـال نـصـلـح الـدكـان مـعـا، لـن يُكلف الأمر كثيرا، وأنت تمتلك دكاكين أخرى، أليس كذلك؟

فأجاب نجاد وهو يتجنب النظر إليَّ:

- ليس بالكثير، فأنا لستُ غنيًّا بهذا القدر.

- كُفَّ عن هذا الحديث، فهناك الآلاف من البشر يتمنون أن يكونوا مكانك الآن.

- أنا أقول الحقيقة، إجمالا هي خمسة دكاكين.

- وهل هذا بقليل يا نجاد؟!

- لماذا تسألني عنها؟

- يكفيك ما بقي من الدكاكين وربما ستزيد.

لم يفهم نجاد مرادي من هذا الكلام.

ألقيت نظرة أخرى إلى الدكان قائلا:

- لقد أخطأ صهيب، كان عليه أن يترك الدكان برونقه، لا بد أن أتحدث مع ،والده، وسيتحمل التكاليف.

- سيتحمل التكاليف!

- لا تقلق، إن العم حسن رجل طيب، وقد سَئِم أيضًا مما يفعله صهيب ، ولكن مهما فعل فهو ابنه ولن يتخلى عنه.

تذكر نجاد أبناءه فقال:

- نعم صحيح.

نظرتُ إلى كنعان وكان ينتظر أمام الباب، ثم قلتُ لنجاد بوجه بشوش:

- لدي اقتراح.

وضع نجاد حطام الأخشاب التي جمعها في زاوية؛ ثم عاد إلينا.

قلتُ وأنا أداعب شعر ملمّع الأحذية الصغير:

ما رأيك أن تؤجرنا الدكان؟

إنها نوايا حسنة في يوم مبارك من أيام رمضان، فقد نبع هذه الاقتراح من قلبي وجرى على لساني.

لم يجب نجاد وبدا يائسًا للغاية، ولكنه نظر إلى ملمع الأحذية الذي كانت عيناه تتلألآن وهو يتلفت حوله متعجبًا فقلت :

- ألا يمكن ذلك يا نجاد !

الدكان صغير، وهو يصلح أن يكون دكانًا لصبي قهواتي أو لملمع أحذية، ثم عدت إلى ملمع الأحذية قائلا:

- ما رأيك يا كنعان؟

- عم حليم !

صه، فلنستأجره أولا، ثم ننظر ما سنفعل لاحقا.

أجاب بصوت خافت:

- لا أعلم.

اقتربت من نجاد وقلت

لكنك ستؤجره بسعر مناسب.

ثم تجولت داخل الدكان وقلت:

- أمهلنا بضعة أيام، لنقابل والد كنعان.

أُعجب نجاد بهذا الاقتراح، وقال:

- حسنًا، المُهلة حتى يوم الإثنين، وأنا حقيقة ليس بوسعي أن أفعل أي شيء حتى ذلك الوقت، من سيستأجر الدكان؟

- إن شاء الله سيستأجره كنعان أليس كذلك يا كنعان؟

لا يوجد ملمع للأحذية في حينا، فالأنسب أن تعمل هنا.

مسكت بذراع نجاد؛ وخرجنا إلى الحارة معا ثم قلت:

هيا لنذهب إلى دكاننا، فالإنسان يختنق وسط هذه الفوضى.

ابتسم نجاد قائلا:

- أنت على حق يا حليم، تعال نذهب.

كانت السماء ملبدة بالغيوم وحرارة الجو قد سفعت المكان من حولنا، والرياح الدافئة تتهادى في أنحاء المنطقة وتجرف الأوراق المتساقطة على الأرض.

أتى كنعان يمشي بخطوات بطيئة، فعدت إليه وسألته:

- متى سيعود والدك ؟

أشاح بوجهه متضجرًا وقال:

- يُفترض أن يأتي اليوم.

- اركض وأخبر من في المنزل، وإذا وجدته فأخبره بدعوتي.

راح يركض مسرورًا ونسي أنه صائم، ولا يلتفت إلى أحد، فقال نجاد:

- لقد سُرَّ الطفل، ولكن هل لدى والده مال؟

- أنت تركز على المال دائمًا، ساعده لوجه الله، هيا أعطني مفتاح الدكان.

ناولني المفتاح، ثم نهض قائلًا:

- أنا ذاهب، وسأمر على السوق لأتسوق بعض الأشياء، فقمت وودعته إلى الباب.

عاد بائع الخضروات والجزار وبائع المقبلات وصانع الأحذية إلى دكاكينهم، وكان العم إسماعيل الشيخ الكبير يشرح شيئًا لبائع الحساء.

يا للعجب !

رغم كبر سنه يسعى لتعليم القرآن وتحفيظه، والحمد لله أنني التحقتُ برَكبه وبدأت أتعلم القرآن.

كان الوقت قد تأخر للغاية، وعم الظلام الدكان، كنت أقرأ القرآن فرفعتُ رأسي بعد أن انتهيت مـن تـلاوة الآيـة، فإذا أنا بشخص عند الباب فقلت:

- تفضل، ماذا تريد؟

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

أغلقت المصحف ونهضت مشيرًا إليه أن يجلس وأنا أحاول

أن أتعرف على هويته، يا ترى هل هو زبون أم ماذا؟

تفحصته من رأسه إلى مفرق ،قدمه فكان يرتدي قميصًا أسود، ووجهه أسمر قليلا مسرحًا شعره ناحية اليمين، فقلت:

- تفضل لو سمحت.

فابتلع ريقه وقال بخجل:

- أنا والد كنعان.

شعرت بالفرح والسرور البالغ ، وخرجت من وراء الطاولة، واحتضنته قائلا:

- مرحبًا بك، متى عُدت من قونية؟

- ليلة أمس.

- وماذا عن العمل؟

صمت برهة وتنفس الصعداء، ثم قال بحزن عميق:

- الحمد لله على كل حال.

ولم يزد على ذلك، فقلت:

- نعم، صحيح يجب أن نحمد الله على كل حال.

تبادلنا النظرات ولا ندري من أين نبدأ الحديث، وهنا كسر والد كنعان حاجز الصمت قائلا:

- إن كنعان لا يذهب إلى المدرسة، وله أختان في المنزل، إن ولدي غلام صالح ومتفهم للغاية؛ ولذلك يحبه الناس جميعًا المنطقة.

ولوح بيده في الهواء وكأنّه يعبّر عن بؤس ويأس، وكان يتجنب أن ينظر إليَّ وعيناه تدمعان، ثم نكس رأسه قائلا:

- لا شيء يجدي يا عمي لقد أردتُ أن أرسله إلى المدرسة مرارًا، واشتريت شاحنة بالتقسيط، وبإذن لله سيزول الضيق عني مع حلول الصيف، ومن يدري فربما أرسله العام القادم، إنَّ إعالة الأسرة ليس بالأمر اليسير.

ثم حدق بعينيه الممتلئتين بالدموع في نقطة ما وظل هكذا، فقلت:

- لقد تقابلت مع نجاد، وسيؤجرنا دكانه، لقد أخبروك طبعًا.

بدا حزينا، ونكس رأسه ولم يستطع أن ينظر إلى وجهي ثم قال:

- أحسنتم التفكير، بارك الله لكم.

- سيكون في منطقتنا مصلح أحذية إن شاء الله، في البداية يقوم بتلميع الأحذية، وبعدها مباشرةً يتعلم إصلاح الأحذية.

- جميل ما تقوله يا عمي ولكن ليس لدي نقود.

ثم وقف وقال:

- كنتُ أتمنى هذا، ولكنني لا أستطيع أن أقوم به، ففتح الدكان يحتاج إلى النقود وأنا لا أمتلكها.

تلاقت أعيننا فقلت:

- وماذا يعني هذا؟

- إنني أقول لك يا عمي مستحيل لا أستطيع أن أقوم بذلك.

لقد شعرت بخيبة أمل فنهضت وتجولتُ بالداخل باحثًا عن حل، ثم عدتُ فجأة لوالد كنعان وقلت:

- أمر محزن ، ماذا سيفعل هذا الصبي بصندوق الدهان في هذا الشتاء القارس؟

لم يُحِرْ جوابًا ، ثم نهض وأخذ قبعته وخرجنا معًا، ووضعتُ يدي اليمنى على كتفه قائلا:

- فَكِّر مليا يا بني، لدينا فرصة حتى يوم الإثنين ثم سأسلم المفتاح لنجاد.

- شكرًا لك، لقد فكرتم لنا ولكن ما باليد حيلة، مع السلامة.

ثم ذهب واختفى وسط زحام السوق.

ما إن اختفى حتى بدأت ركبتاي بالارتعاش وقلت في نفسي:

- يا للأسف ثم دخلتُ إلى الدكان.

وفي ذلك اليوم بحثت عن كنعان حتى المساء؛ فمن يدري كم حزن المسكين لرفض والده الدعوة؟!

أفطرنا في كآبة، وحزنت زوجتى سميحة لما حكيت لها ما جرى بيني وبين والد كنعان وبينما كنتُ في طريقي إلى صلاة التراويح أخذت زوجتي الأحذية التي تم تلميعها وإصلاحها، ونظرنا إلى بعضنا، كانت الأحذية قد تم تلميعها بعناية فائقة، لقد قام كنعان بعمل جيد.

بدأنا في السير أنا وزوجتي سميحة، واستعدت نشاطي قليلا في هذا الجو الجميل والربيع المعتدل وكلما اقتربنا من الحارة نظرتُ بتمعن في الأطفال المارّين من أمامنا، باحثًا عن شخص يهمني أمره، ولكن بلا جدوى؛ فلم أستطع أن أرى ملمع الأحذية الصغير.

قابلـت نـجـادًا عـنـد فـنـاء الجامع، وأخذنـا الحـديـث ونـحـن واقفون، وأردتُ أن أقول إننا لن نستأجر الدكان، ثم تراجعتُ، فما زال هناك يوم كامل على الموعد.

وهـا قـد مـر ذلك اليوم، كان صباح يوم الإثنين باردًا جدًّا، ففتحت الدكان على مضض وكنستُ أركانه؛ وصل جرجس مبكرًا، ولاحظ أنني شارد الذهن، ولكنني استأذنت منه ولـم نتحدث كثيرًا.

وضعت الممسحة والجاروف في مكانهما، والتقطت الأشياء المتساقطة خلف الطَّاولة، كان خصـري يؤلمني قليلًا، فنهضتُ بصعوبة فإذا أنا بامرأة عند الباب، فقلت لها:

- تفضلي، ماذا تريدين؟

اقتربت بصمت ثم قالت:

- وفقك الله، أريد أن أرى المعلم حليم.

ملامحها ليست غريبة عليَّ إنها تذكرني بشخص ما، وبينما كنتُ أحاول أن أتذكر، قالت:

- أنا والدة كنعان

نعم شعرت بسعادة، ولكنها سعادة لم تخل من الهم، لأننا لم نستطع أن نفعل لكنعان ما كنا نفكر به.

قالت:

- بارك الله فيك، سمعت أنك ستستأجر لابني دكانا في الصباح، ليذهب إلى المدرسة مساء.

صحيح، ولكن ما باليد حيلة؛ فوالده لم يوافق.

وغاب كنعان عدة أيام، ثم سألتها بشغف:

- أين كنعان؟

كانت خجلى كما لو أنها ارتكبت ذنبًا، ثم قالت:

- ذهب إلى الحي المجاور.

- لماذا؟

نكَسَتِ الأم رأسها وقالت بصوت خافت:

- خجلا منك يا سيدي.

ماذا فعل الطفل؟

عرفتُ إنه يهرب إلى الحي المجاور خجلًا مني.

لقد هرب إلى الحي المجاور لينسى أمر الدكان؛ فكم كان يتخيل أنه سيستأجره ليعمل فيه، إنه على حق فلو كنت مكانه لفعلتُ مثل ما فعل، ولكن ما باليد حيلة؛ تضايقتُ لما فكرْتُ في هذا كله، لكن حاولتُ أن لا أُشعر أمّ كنعان بما في نفسي.

أخرجت الأم من نطاقها حقيبة صغيرة من القماش، حلت رباطها وأفرغتها فسقط منها سواران !

نظرتْ إليَّ ولكنني لم أفهم شيئًا، واغرورقت عينا المرأة بالدموع، وقالت:

- أعددتهما للكفن خذهما، واستأجر الدكان. كانت كلماتها الأخيرة كالسهام تُغرس في قلبي، ولم أتحمل

هذه التضحية، أخذتُ السوارين وقلت:

- ماذا سيقول زوجك لو علم بالأمر؟

- زوجي يتمنى هذا، ولكن مشكلته الوحيدة كانت في تأمين النقود خاصة أن عليه دينا لصاحب السيارة؛ لذا قال لي: عليه أن يعمل ويتعلم.

ابتهجت وقلت:

- هذا ما أردنا ، لقد تم مرادنا والله الحمد، كم عانيتُ في هذه المدة!

سنوفق بإذن الله.

هذا يعني أننا سنستأجر الدكان وسيذهب لمدرسته المسائية العام القادم.

ثم سألتها هل لدى كنعان علم بذلك، فقالت:

- لا .

قلت: أرسلي إليه فورًا.

فقالت:

- حسنًا.

استأذنت وخرجنا معًا، وكان جرجس ينظر إلينا باندهاش!

ولكنه كان سعيدًا عندما رآني وقد انشرح صدري وقال:

- ماذا حدث يا حليم؟

لقد تغيرت فجأة.

فغمزته وقلت:

- سوف أشرح لك لاحقا.

وودعتُ والدة كنعان.

جلستُ أفكر في كلّ ما حدث، فهذه زوجة جاري قد شفيت، وذاك الوالد قد تضامن مع ولده فسدد عنه دينه، وملمع الأحذية بدأ يعمل في دكان ويدرس مساءً، نعم «الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة»، بهذا بشرنا رسول الله، وهو ما شاهدته هنا والحمد لله.

اقرأ ايضا

تعليقات