أسماء الله الحسنى بشكل جميل قصة مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ !

أسماء الله الحسنى بشكل جميل قصة مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ !

أسماء الله الحسنى بشكل جميل قصة مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ !

أسماء الله الحسنى بشكل جميل قصة مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ !

مع قصة جديدة من سلسلة قصص أسماء الله الحسنى وقصة اليوم بعنوان مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ ! وهي قصة مكتوبة بشكل جميل نتمنى أن تنال رضاكم.

أسماء الله الحسنى بشكل جميل قصة مَا أَجْمَلَ الصَّدْقَ !

عَلَى الرَّغْمِ مِنْ مُرُورِ أُسْبُوعِ كَامِلٍ فَإِنَّ السِّنْجَابَ لَطِيفًا لَمْ يُشْفَ بَعْدُ، وَلِكَيْ لَا يَمَلَّ مِنَ الْوَحْدَةِ، كَانَ أَصْدِقَاؤُهُ يَتَنَاوَبُونَ عَلَى زِيَارَتِهِ، وَيَبْقَوْنَ بِجِوَارِهِ حَتَّى الْمَسَاءِ.

وَحَانَ دَوْرُ الْحَمَامَةِ يَمَامَةَ وَالْقُنْفُذِ ذِي الشَّعْرِ النَّاعِمِ، وَطَلَبَ الْقُنْفُذُ مِنْ أُمِّهِ الْإِذْنَ لِلْخُرُوج.

فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ:

- لَيْسَ هُنَاكَ مَانِعٌ أَنْ تَذْهَبَ يَا صَغِيرِي، وَلَكِنِ اعْتَنِ بِنَفْسِكَ كَثِيرًا وَكُنْ حَذِرًا، فَالشُّعْبَانُ الَّذِي تَشَاجَرْتُمْ مَعَهُ يَتَجَوَّلُ هُنَا مُنْذُ أَيَّامٍ بِخُفْيَةٍ.

- حَسَنًا يَا أُتِيَ الْحَبيبَةَ، أَسْتَوْدِعُكِ الله.

وَبَعْدَ أَنْ خَرَجَ القُنْفُذُ مِنْ مَنزِلِهِ مَشَى وَهُوَ يَتَلَفْتُ حَوْلَهُ بِحَذَرٍ.

تَغَيَّرَتْ نَظْرَتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَأَصْبَحَ يَرَى جَمَالَ صَنْعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَزْدَادُ حُبُّهُ لَهُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ كَانَتْ وَالِدَتُهُ أَيْضًا تَنْضَمُّ لِلدُّرُوسِ، وَتُؤَدِّي فَرَائِضَهَا وَوَاجِبَاتِهَا دُونَ مَلَلٍ أَوْ تَعَبٍ، كَمَا كَانَتْ تَجْمَعُ بَاقِيَ الْقَنَافِذِ وَتُحَاوِلُ أَنْ تَشْرَحَ لَهُمْ مَا تَعَلَّمَتْهُ مِنْ دُرُوسِ الْعِلْمِ.

وَكَانَ الْقُنْفُذُ ذُو الشَّعْرِ النَّاعِمِ سَعِيدًا جِدًّا، فَقَدْ نَالَ شَرَفَ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى مُنْذُ صِغَرِهِ، فَكَانَ دَائِمَ الشُّكْرِ لِرَبِّهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَكَانَ يَسْعَى لِتَعَلُّمِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا؛ لِأَنَّ أَصْدِقَاءَهُ قَدْ تَعَلَّمُوا مُعْظَمَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَقَرَؤُوا الْأَدْعِيَةَ الَّتِي كَانَتْ تَمْنَحُهُ مَذَاقًا خَاصَّا.

كَانَ الْجَرُّ سَاحِرًا كَعَادَتِهِ، كُلُّ شَيْءٍ غَايَةٌ فِي الْجَمَالِ، وَكَأَنَّ الْأَشْجَارَ وَالْأَزْهَارَ وَالْحَشَرَاتِ وَالْأَعْشَابَ تَتَسَابَقُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي الْجَمَالِ.

كَانَ الْقُنْفُذُ ذُو الشَّعْرِ النَّاعِمِ حَرِيصًا عَلَى أَلَّا يَطَأُ الزُّهُورَ الْمَفْرُوشَةَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَكِنَّهُ كَانَ مُجْبَرًا عَلَى هَذَا، لِأَنَّ كُلَّ الْمَكَانِ كَانَ مَفْرُوشًا بِالزُّهُورِ، وَلِكَيْ لَا يَطَأَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَلَّا يَتَحَرَّكَ؛ وَفَجْأَةً أَفْزَعَهُ صَوْتٌ يَقُولُ:

- يَا إِلَهِي اِحْذَرُ يَا أَخِي.

نَظَرَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَطِئَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا.

وَعِنْدَمَا أَنْصَتَ وَجَدَهُ صَوْتَ فَرَاشَةٍ جَمِيلَةٍ؛ فَلَقَدِ انْتَشَرَتِ الْفَرَاشَاتُ عَلَى الْأَعْشَابِ بِشَكْلٍ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهَا دُونَ تَدْقِيقِ النَّظَرِ جَيْدًا، فَقَالَ الْقُنْفُذُ:

- مَعْذِرَةً يَا أُخْتَاهُ، ظَنَنْتُكِ زَهْرَةً، وَفِي الْوَاقِعِ لَا فَرْقَ بَيْنَكُمَا.

- جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، لَقَدْ خَلَقَنِي اللهُ تَعَالَى لَطِيفَةً وَحَسَّاسَةً جِدًّا، فَإِذَا وَطِقْتَ الزَّهْرَةَ لَا يَحْدُثُ لَهَا شَيْءٌ، حَتَّى لَوْ دَهَسْتَهَا تَقُومُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى الْفَوْرِ، أَمَّا أَنَا فَلَوْ دَهَسْتَنِي فَسَأَمُوتُ مُبَاشَرَةً.

أَكْمَلَتِ الْفَرَاشَةُ قَائِلَةً:

- أَتَعْرِفُ أَنَّ أَزْهَارَ الْحَدِيقَةِ لَا تَتَحَمَّلُ مِثْلَ الْأَزْهَارِ الْبَرِيَّةِ فَهِيَ مِثْلُنَا تَمَامًا لَطِيفَةٌ وَحَسَّاسَةٌ ، إِذَا مَرَرْتَ عَلَيْهَا مَاتَتْ عَلَى الْفَوْرِ؛ وَعَلَى الصِّغَارِ أَنْ يَنْتَبِهُوا لِهَذَا جَيّدًا.

تَدَخَلَتْ إِحْدَى الزَّهَرَاتِ فِي الْحَدِيثِ قَائِلَةً:

- يَنْبَغِي أَلَّا تَقْطِفَ أَزْهَارَ الْحَدِيقَةِ أَبَدًا.

فَقَالَتِ الْفَرَاشَةُ:

- أَنْتِ مُحِقَّةٌ يَا أُخْتِي زَهْرَةَ النَّرْجِسِ، فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّ الْأَطْفَالَ يُدْرِكُونَ هَذَا، لَكِنَّهُمْ يَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، فَيُؤْذُونَ الْبيئَةَ مِنْ حَوْلِهِمْ كَثِيرًا، ذَاتَ يَوْمٍ ذَهَبْتُ إِلَى حَدِيقَةِ مَدْرَسَةٍ فَوَجَدْتُ الْأَنْهَارَ هُنَاكَ حَزِينَةً لِلْغَايَةِ، فَكَانَ مِنْهَا الْمَجْرُوحُ وَالْمَكْسُورُ، وَلَمَّا سَأَلْتُهُنَّ عَنِ السَّبَبِ أَخْبَرْنَنِي أَنَّ الْأَطْفَالَ يَمُرُّونَ فَوْقَهُنَّ وَيَدهَسُونَهُنَّ بِالْكُرَةِ.

فَحَزِنَتْ زَهْرَةُ النَّرْجِسِ كَثِيرًا، وَقَالَتْ:

- لَيْتَهُمْ يَنْتَبِهُونَ لِهَذَا، فَالْحَدِيقَةُ بِدُونِ أَزْهَارٍ كَالْمَدْرَسَةِ بِدُونِ أَطْفَالِ، لَيْتَ الْأَطْفَالَ يُدْرِكُونَ هَذَا.

قَالَتِ الْفَرَاشَةُ:

- وَلَكِنْ هُنَاكَ أَيْضًا أَطْفَالٌ عُقَلَاءُ لَا يُؤْذُونَ الزُّهُورَ قَطُّ، وَيُنَتِهُونَ أَصْدِقَاءَهُمْ دَائِمًا لِذَلِكَ، وَعِنْدَمَا يُوجَدُ أَطْفَالٌ مِثْلَ هَؤُلَاءِ تُصْبِحُ حَدِيقَةُ مَدْرَسَتِهِمْ جَمِيلَةً جِدًّا، كَانَتْ حَدِيقَةُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي ذَهَبْتُ إِلَيْهَا بِالْأَمْسِ هَكَذَا، صَدِّقِينِي تَمَنَّيْتُ الْبَقَاءَ هُنَاكَ.

كَانَ الْقُنْفُذُ ذُو الشَّعْرِ النَّاعِمِ يَنْظُرُ إِلَى الْفَرَاشَةِ وَزَهْرَةِ النَّرْجِسِ بإعْجَاب شَدِيدٍ، فَكِلَاهُمَا غَايَةٌ فِي الْجَمَالِ.

قَالَ الْقُنْفُذُ:

- إِنَّ أُخْتَنَا زَهْرَةَ النَّرْجِسِ تَسْتَمِدُّ لَوْنَهَا وَرَائِحَتَهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْتِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَتِ أَلْوَانَكِ الْمُزَرْكَشَةَ هَذِهِ؟ فَالْأَلوَانُ لَدَيْكِ مُتَنَاسِقَةٌ كَأَنَّهَا وُضِعَتْ بِعِنَايَةٍ فَائِقَةٍ.

ابْتَسَمَتِ الْفَرَاشَةُ لِلْقُنْفُذِ، وَأَجَابَتْ عَلَى سُؤَالِهِ بِسُؤَالِ آخَرَ:

- لَوْ أَنَّ الزَّهْرَةَ تَسْتَمِدُّ لَوْنَهَا وَرَائِحَتَهَا مِنَ الْأَرْضِ كَمَا قُلْتَ، فَمِنْ أَيْنَ تَسْتَمِدُّ الْأَرْضُ هَذَا؟

انْدَهَشَ الْقُنْفُذُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَاشَةِ، وَأَخَذَ يُفَكِّرُ... أَرْضٌ جَافَّةٌ وَسَوْدَاءُ فَوْقَهَا آلَافُ الْأَنْوَاعِ مِنَ النَّبَاتَاتِ... مِنْ أَيْنَ هَذِهِ الْآلَافُ مِنْ أَنْواعِ النَّبَاتَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ؟

وَآلَافُ الرَّوَائِحِ، وَآلَافُ الْأَطْعِمَةِ الْمُتَنَوّعَةِ ... حَتَّى إِنَّ لِكُلِّ نَبَاتٍ عِدَّةَ أَشْكَالٍ ... فَكَيْفَ هَذَا؟!...

شَعَرَتِ الْفَرَاشَةُ أَنَّ الْقُنْفُذَ قَدِ اسْتَغْرَقَ فِي التَّفْكِيرِ، فَقَالَتْ لَهُ: - إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ أَصْعَبُ مِنَ السُّؤَالِ الَّذِي سَأَلْتَهُ لِي، أَلَيْسَ كَذَلكَ ؟!

لَمْ يَسْتَطِع القُنْفُذُ أَنْ يُجِيبَ رَغْمَ أَنَّ الْإِجَابَةَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ كَانَتْ سَهْلَةً جِدًّا.

وَفِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ سُمِعَ صَوْتُ "هَمْهَمَةٍ".

نَظَرَ الْجَمِيعُ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَتَلَاقَتْ أَعْيُنُهُم بِشُعْبَانِ.

- أَأَنْتَ مَرَّةً أُخْرَى؟!

- نَعَمْ أَنَا يَا ذَا الشَّعْرِ النَّاعِمِ أَتَعْتَقِدُ أَنِّي سَأَنْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ؟!

نظَرَتِ الْفَرَاشَةُ وَزَهْرَةُ النرْجسِ بِأَعْيُنِ مَلِيئَةِ بِالْخَوْفِ، فَقَالَ لَهُمَا الشُّعْبَانُ:

- لَا تَخَافَا، لَا عَلَاقَةَ لِي بِكُمَا، أَنَا أَبْحَثُ عَنْ هَذَا الْقُنْفُذِ!

ثَمَّ رَفَعَ الثَّعْبَانُ رَأْسَهُ لِلْهَوَاءِ مُسْتَعِدًّا لِلْهُجُومِ، وَقَالَ لِلْقُنْفُذِ:

هَيَّا قُلْ آخِرَ كَلِمَاتِكَ، هَيَّا بِسُرْعَةٍ !

فَسَأَلَتْهُ الْفَرَاشَةُ بِصَوْتٍ أَقْرَبَ إِلَى الْبُكَاءِ:

- مَاذَا تُرِيدُ مِنْهُ؟!

مَاذَا فَعَلَ بِكَ؟!

- هُوَ يَعْرِفُ مَا فَعَلَ، فَبِسَبَبِهِ مَا زَالَ رَأْسِي مَثْقُوبًا حَتَّى الْآنَ، وَلَمْ تَسْكُنُ آلَامِي بَعْدُ.

فَقَالَ الْقُنْفُذُ :

- اسْمَعْ يَا أخِي أَنْتَ تَعْرِفُ أَنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَبْدًا، وَأَنْتَ مَنْ ضَخْمَ الْأَمْرَ.

- دَعْكَ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَقُلْ آخِرَ مَا عِنْدَكَ!

فَقَالَ الْقُنْفُذُ :

- أَنَا لَا أَخَافُ مِنْكَ إِذَا كَانَ عُمُرِي طَوِيلًا لَا يُمْكِنُكَ تَقْصِيرُهُ، وَإِذَا كَانَ قَصِيرًا لَا يُمْكِنُكَ زِيَادَتُهُ؛ أَنَا أَعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَةً تَقُولُ: ﴿فَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلُ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَضُرْنِي بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْ، وَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَمْنَعَ عَنِّي رِزْقًا قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لِي حَتَّى وَلَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ .

نَظَرَتِ الْفَرَاشَةُ وَزَهْرَةُ النَّرْجِسِ إِلَى الْقُنْفُذِ نَظْرَةَ تَقْدِيرٍ وَاحْتِرَامٍ، فَلَدَيْهِ إِيمَانٌ قَوِيٌّ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُؤْمِنٍ.

ثُمَّ قَالَ الْقُنْفُذُ:

- هَيَّا تَفَضَّلْ وَافْعَلْ كُلَّ مَا بِوَسْعِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّنِي لَنْ أَسْتَسْلِم لَكَ بِسُهُولَةٍ.

جُنَّ جُنُونُ الثَّعْبَانِ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَقَفَزَ نَحْوَ الْقُنْفُذِ كَالسَّهْمِ.

كَانَ الْقُنْفُذُ يَتَرَقَّبُ حَرَكَاتِ الثَّعْبَانِ، وَلَمَّا رَآهُ وَهُوَ يَقْفِزُ نَحْوَهُ، أَدْخَلَ رَأْسَهُ فِي جَسَدِهِ، وَحَوَّلَ نَفْسَهُ إِلَى كُرَةٍ مِنَ الشَّوْكِ.

لَمْ يَتَوَقَعَ التَّعْبَانُ أَنْ يَكُونَ الْقُنْفُذُ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ، فَاصْطَدَمَ بِالْقُنْفُذِ بِقُوَّةٍ، وَانْغَرَزَتِ الْأَشْوَاكُ فِي رَأْسِهِ، فَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.

وَبَعْدَ مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ رَفَعَ التَّعْبَانُ رَأْسَهُ مِنْ عَلَى الْأَرْضِ ببطء، بِبُطْءٍ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ الْفَرَاشَةُ وَهِيَ طَائِرَةٌ فِي الْهَوَاءِ، كَأَنَّهَا تَقُولُ لَهُ: "أَرَأَيْتَ مَا حَدَثَ لَكَ؟! “

فَهِمَ الثَّعْبَانُ نَظَرَاتِ الْفَرَاشَةِ عَلَى أَنَّهَا اسْتِهْزَاءٌ بِهِ، فَقَفَزَ قَائِلًا:

- أَتَنْظُرِينَ إِلَيَّ بِسُخْرِيَةٍ!

- لَمْ أَنْظُرْ إِلَيْكَ بِسُخْرِيَّةٍ، أَنَا أُشْفِقُ عَلَى حَالِكَ.

فَغَضِبَ الشُّعْبَانُ أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَصَرَخَ فِي وَجْهِهَا:

- وَمَنْ أَنْتِ كَيْ تُشْفِقِي عَلَيْ!

ثُمَّ الْتَفَتَ إلى القنفذ وَقَالَ:

- إِلَى مَتَى سَتَظُلُّ هَكَذَا؟!

ثُمَّ ضَحِكَ بِمَكْرٍ قَائِلًا:

- سَأَنْتَظِرُ.

بَدَأَ التَّعْبَانُ فِي الانْتِظَارِ.

بَيْنَمَا ذَهَبَتِ الْفَرَاشَةُ لِطَلَبِ الْمُسَاعَدَةِ، اخْتَبَأَتْ زَهْرَةُ النَّرْجِسِ بَيْنَ الْأَعْشَابِ.

وَبَعْدَ مُرُورٍ وَقت طَوِيلِ، مَلَّ الثَّعْبَانُ مِنَ الانْتِظَارِ، أَمَّا الْقُنْفُذُ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكَانِهِ.

اسْتَجْمَعَ الشُّعْبَانَ كُلَّ مَكْرِهِ وَدَهَائِهِ وقَالَ لِلْقُنْفُذِ:

- حَسَنًا، لَقَدْ تَخَلَّيْتُ عَنِ الِانْتِقَامٍ، هَيَّا لِنَتَصَالَحْ.

أَدْرَكَ الْقُنْفُذُ نِيةَ التَّعْبَانِ، فَقَالَ لَهُ:

- أَنَا لَا أَثِقُ بِكَ، إِنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَخْدَعَنِي أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟!

- لَا، لَا أَخْدَعُكَ، صَدِّقُنِي لَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى مَا فَعَلْتُ، وَأُرِيدُ أَنْ أَتَصَالَحَ مَعَكَ.

لَمْ يَكُنِ القُنْفُذُ يُصَدِّقُ التَّعْبَانَ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الثعَابِينَ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ تَتَصَالَحَ مَعَ الْقَنَافِذِ، وَلِذَا أَرَادَ الْقُنْفُذُ أَنْ يُجَرِبَهُ، فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهَا بِسُرْعَةٍ، فَهَاجَمَهُ الثَّعْبَانُ عَلَى الْفَوْرِ !

فَقَالَ لَهُ الْقُنْفُذُ :

- إِنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى صَادِقُ الْوَعْدِ، وَيُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي وُعُودِهِمْ، فَمُخَالَفَةُ الْوَعْدِ تَصَرُّفْ سَيِّئَ لِلْغَايَة.

كَانَتْ هُنَاكَ سُلَحْفَاةٌ تُشَاهِدُ الْمَوْقِفَ مِنْ خَلْفِ إِحْدَى الْأَشْجَارِ، فَتَدَخَلَتْ فِي الْحَدِيثِ قَائِلةً:

- إِنَّ الْقُنْفُذَ مُحِقِّ فِي قَوْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَادِقُ الْوَعْدِ، يُحِبُّ الصّدْقَ ، ولا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ أَبَدًا.

نَظَرَ الثَّعْبَانُ إِلَى السُّلَحْفَاةِ بِغَيْظِ، وَقَالَ بِغَضَبٍ:

- مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ أَنْتِ؟! وَمَنْ تَكُونِينَ؟!

- إِنَّنِي سُلَحْفَاةٌ أَعِيشُ هُنَا، وَيُنَادُونَنِي بـ"السُّلَحْفَاةِ الْبَريَّة".

- أَنَا أَعْلَمُ هَذَا.

- إِذَا فَلِمَاذَا تَسْأَلُ مَنْ أَنَا؟!

بَدَا التَّعْبَانُ وَكَأَنَّهُ سَيَنْفَجِرُ مِنَ الْغَيْظِ.

- أَنَا أَقْصِدُ مَنْ أَنْتِ لِتَتَدَخُلِي فِي الْحَدِيثِ... أَفَهِمْتِ؟!

- إِنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْهَمَ الْحَوَادِثَ مِنْ حَوْلِي بِشَكْلٍ سَرِيع وَذَلِكَ بِسَبَبٍ تَقَدُّمٍ عُمْرِي.

- أَتَهْزَئِينَ بي؟!

- لَا يَا عَزِيزِي، لِمَا تَقُولُ هَذَا؟!.

كَانَتِ السُّلَحْفَاةُ هَادِئَةً تَمَامًا، وَلَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا قَطُّ، كَانَتْ تَتَحَدَّثُ بهُدُوءٍ وَسَكِينَةٍ، ثُمَّ أَكْمَلَتْ حَدِيثَهَا:

- أَنْتَ مُتَعَصِبٌ جِدًّا، دَعْكَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَانْظُرْ إِلَى الْحَيَاةِ بِحُبّ وَتَسَامُحِ، عِنْدَهَا سَتَرَى الدُّنْيَا بِشَكْلٍ مُخْتَلِفِ، وَسَتَسْتَمْتعُ بِالْحَيَاةِ أَكْثَرَ.

كَانَ الثَّعْبَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْقُنْفُذِ بِعَيْنِ وَيُرَاقِبُ السُّلَحْفَاةَ بِالْعَيْنِ الْأُخْرَى، وَيَنْتَظِرُ الْوَقْتَ الْمُنَاسِبَ لِمُهَاجَمَةِ أَيِّ مِنْهُمَا، فَقَالَ:

- لَا يُوجَدُ لَدَيْكُمْ عَمَلٌ غَيْرُ النَّصِيحَةِ، أَنَا غَنِيٌّ عَنْ نَصَائِحِكُما هَذِهِ.

- نَحْنُ لَا نَقُولُ لَكَ شَيْئًا سَيِّئًا، لَوِ اسْتَمَعْتَ لِمَا نَقُولُهُ فَأَنْتَ الْمُسْتَفِيدُ.

- وَبِمَاذَا تُفِيدُنِي هَذِهِ النَّصَائِحُ ؟!

، وَمَاذَا سَأَكْسِبُ مِنَ النَّصَائِح ؟!

فَالْبَقَاءُ لِلْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَأَنَا قَوِيٌّ، وَلَا يَنْقُصُنِي شَيء .

أَخْرَجَ الْقُنْفُذُ رَأْسَهُ قَلِيلًا وَقَالَ:

- إِنَّ الْقَوِيَّ هُوَ اللَّهُ، وَلَوْ شَاءَ لَمَا جَعَلَكَ تَخْطُو خَطْوَةً وَاحِدَةً.

فِي الْوَاقِعِ كَانَ الثَّعْبَانَ يُدْرِكُ هَذَا، لَكِنَّهُ كَانَ يُعَانِدُ وَيَتَمَادَى فِي فِعْلِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ السَّيِّئَةِ، وَعِنْدَمَا لَمْ يَعْتَرِضِ الشُّعْبَانُ عَلَى كَلَامِ الْقُنْفُذ، أَخْرَجَ الْقُنْفُذُ رَأْسَهُ تَمَامًا، وَأَكْمَلَ كَلَامَهُ:

- تَفَكَّرْ فِي الْكَوْنِ بِأَكْمَلِهِ، فِي جَمَالِهِ وَاكْتِمَالِهِ، وَفِي كُلِّ مَا وَهَبَكَ اللهُ مِنْ نِعَمٍ، وَمِنْ هَوَاءٍ تَسْتَنْشِقُهُ وَلَا تَمْلِكُهُ، وَمَاءٍ تَشْرَبُهُ، وَطَعَامٍ تَأْكُلُهُ وَلَمْ تَخْلُقْهُ، وَأَرْضِ تَحْمِلُكَ وَسَمَاءٍ تَحْمِيكَ، وَشَمْسٍ تُعْطِيكَ الدِّفْءَ وَالضّيَاءَ وَقَمَرِ يُبَدِّدُ لَكَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مَنَحَكَ الْحَيَاةَ بِاسْمِهِ الْمُحْيِي وَوَعَدَكَ أَنْ يَرْزُقَكَ بِكُلِّ احْتِيَاجَاتِكَ وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ، وَوَعَدْنَاهُ نَحْنُ بِعِبَادَتِهِ وَبِألَّا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَفِي بِهَذَا الْوَعْدِ، وَلَا نُخْلِفَهُ مَهْمَا كَانَ الْأَمْرُ.

لَمْ يَتَكَلَّمِ الشُّعْبَانُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَلَمْ تَبْدُ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْهُجُومِ.

فَرَقَّقَتِ السُّلَحْفَاةُ صَوْتَهَا ثُمَّ قَالَتْ:

- اسْمَعْ يَا أَخِي إِنَّ الْأَخَ القُنْفُذَ مُحِقٌّ تَمَامًا فِيمَا يَقُولُهُ، أَلَمْ تَشْعُرُ أَنَّكَ قَدْ خَالَفْتَ وَعْدَكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى قَطُّ؟ إِنَّ الشَّمْسَ تُشْرِقُ كُلَّ يَوْمٍ، تَخَيْلُ لَوْ لَمْ تُشْرِقُ أَسْبُوعًا وَاحِدًا؛ تَخَيَّلُ لَوِ انْقَطَعَ عَنْكَ الْهَوَاءُ الَّذِي تَسْتَنْشِقُهُ لِمُدَّةِ دَقِيقَتَيْنِ، مَاذَا سَيَحْدُثُ؟

تَصَوَّرْ لَوْ بَقِيتَ دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ لِمُدَّةِ شَهْرٍ؟ تَخَيَّلُ لَوْ لَمْ تَكُن تَسْتَطِيعُ الْحَرَكَةَ هَلْ مَنَعَ عَنْكَ اللهُ تَعَالَى أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ رَغْمَ أَنَّكَ تَعْصِيهِ، هَلْ قَالَ يَوْمًا إِنَّكَ عَبْدٌ عَاصِ، وَلِهَذَا لَنْ أُعْطِيَكَ مَا وَعَدْتُكَ بِهِ؟

- وَلَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ، أَنَّهُ لَنْ يَقُولَ فِيمَا بَعْدُ؟

- أنْتَ مُحِقٌّ، فَلَوْ أَصَرُ الْعَبْدُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ كَمَا يَسْتَحِقُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

- هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ وَعْدِهِ؟

كَانَ الشُّعْبَانُ يَسْتَمِرُّ فِي مَكْرِهِ، حَيْثُ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُشَتتَ الانْتِبَاهَ بِأَسْئِلَتِهِ الْمَاكِرَةِ.

وَكَانَتِ السُّلَحْفَاةُ تَعْلَمُ الْغَرَضَ مِنْ وَرَاءِ أَسْئِلَةِ الثَّعْبَانِ الْخَبيثَةِ هَذِهِ، وَلَكِنَّ وَظِيفَةَ الْمُؤْمِنِ هِيَ عَدَمُ الْمَلَلِ من الدعوة والتبليغ، أي الدَّعْوَةِ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ.

السُّلَحْفَاةُ :

- لَيْسَ هَذَا رُجُوعًا عَنِ الْوَعْدِ أَبَدًا، إِنَّهُ يُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا، لأنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمُتَّقِينَ بِالثَّوَابِ وَالْعُصَاةَ بِالْعِقَابِ.

اِخْتَلَطَ الْأَمْرُ عَلَى زَهْرَةِ النَّرْجِسِ، فَقَالَتْ:

- إِنَّ التَّعْبَانَ لَا يَفْعَلُ مَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ كَعَبْدٍ لِلَّهِ تَعَالَى، أَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ خَلَفَ وَعْدَهُ مَعَ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الْحَالَةِ؟ لِمَاذَا لَا يَقْطَعُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رِزْقَهُ؟

ابْتَسَمَتِ السُّلَحْفَاةُ الْعَجُوزُ فِي مَرَارَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ:

- لَقَدْ قُلْتُ قَبْلَ قَلِيلٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَادِقُ الْوَعْدِ، لَا يُجَازِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ أَعْظَمِ وُعُودِهِ تَعَالَى الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْحَشْرُ وَالْآخِرَةُ، أَيْ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتْرُكُ بَعْضَ الْحِسَاب إلَى الْآخِرَةِ، وَعَلَى مَنْ يُتْرَكُ حِسَابُهُ إِلَى الْآخِرَةِ أَنْ يَخَافَ أَكْثَرَ، فَالْحِسَابُ فِي الدُّنْيَا أَهْوَنُ بِكَثِيرٍ، فَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ بِالْجَنَّةِ، أَمَّا الْعَاصُونَ فَتَوَعْدَهُمْ بِالنَّارِ، وَقَدْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ تَصَرُّفٌ سَيِّءٌ وَمِنْ سمَاتِ الْعَاجِزينَ الضُّعَفَاءِ وَالْكَاذِبِينَ، لَكِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ التَّوَعْدِ أَغْنِي الْمَغْفِرَةَ وَالْعَفْوَ عَنِ الذُّنُوبِ لَيْسَ تَصَرُّفًا سَيِّئًا، وَلَا يُعَدُّ خُلْفًا لِلْوَعْدِ، بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ حَسَنٌ مَحْمُودٌ، وَهُوَ فَضْلٌ وَكَرَمٌ.

كَانَ الشُّعْبَانُ لَا يَسْتَمِعُ لِأَيّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَانَ الْكَلَامُ يَدْخُلُ مِنْ أَحَدٍ أُذُنَيْهِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْأُخْرَى، وَانْطَلَقَ الثَّعْبَانُ كَالسَّهُم نَحْوَ السُّلَحْفَاةِ مُهَاجِمَّا إِيَّاهَا هَذِهِ الْمَرَّةَ.

فَاصْطَدَمَ رَأْسُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ بدِرْع السُّلَحْفَاةِ.

فَغَضِبَتِ السُّلَحْفَاةُ الْعَجُوزُ وَقَالَتْ:

- آهِ مِنْكَ أَيُّهَا الثَّعْبَانُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى عَلَّمَنَا وَمَنَحَنَا الْوَسَائِلَ الَّتِي تُدَافِعُ بِهَا عَنْ أَنْفُسِنَا.

بَدَأَ التَّعْبَانُ يَتَلَوَّى عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْأَلَمِ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهُ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ، وَأَرَادَ النُّهُوضَ وَلَمْ يَقْدِرْ أَيْضًا.

اِنْقَلَبَتِ الْكِفَّةُ وَأَصْبَحَتِ الْفُرْصَةُ فِي أَيْدِي الْقُنْفُذِ وَالسُّلَحْفَاةِ، فَبِأَيْدِيهِمُ الْآنَ أَنْ يُعَاقِبَا الشُّعْبَانَ إِنْ شَاءَا.

وَضَعَ الثَّعْبَانُ ذَيْلَهُ عَلَى رَأْسِهِ لِيَحْمِيَ نَفْسَهُ وَهُوَ يَرْتَعِشُ خَوْفًا.

وَفِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ قَدِمَتِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ مَعَ الْفَرَاشَةِ.

أَفَاقَ التَّعْبَانُ قَلِيلًا، وَعِنْدَمَا فَتَحَ عَيْنَيْهِ رَأَى الْحَمَامَةَ يَمَامَةَ، فَتَظَاهَرَ الثَّعْبَانُ بِأَنَّهُ مَغْشِي عَلَيْهِ لِفَتْرَةِ ثُمَّ انْتَهَرُ أَوَّلَ فُرْصَةٍ وَهَرَبَ إلَى حُفْرَةٍ مَا وَاخْتَبأ بها.

وَقَدْ أَدْرَكَتِ السُّلَحْفَاةُ بِخِبْرَتِهَا الطَّوِيلَةِ مَكْرَ الشُّعْبَانِ، لَكِنَّهَا لَمْ تُظْهِرْ هَذَا، وَكَانَتْ مُسْتَعِدَّةً لِصَدِ هُجُومِهِ فِي أَيِّ لَحْظَةٍ.

وَلَمَّا رَأَى الْقُنْفُذُ هُرُوبَ الشُّعْبَانِ أَخْرَجَ رَأْسَهُ، وَقَالَ:

- يَبْدُو أَنَّهُ لَنْ يَتْرُكَنِي وَشَأْنِي.

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْحَمَامَةِ يَمَامَةَ قَائِلًا:

- لَوْ ضَرَبْتِهِ بِمِنْقَارِكِ مَرَّةً أُخْرَى لَاسْتَرَحْنَا مِنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ.

نَظَرَتِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ إِلَى الْقُنْفُذِ بِاسْتِغْرَابِ شَدِيدٍ، وَقَالَتْ:

- هَذَا الْكَلَامُ لَا يَلِيقُ بِكَ أَبَدًا يَا أَخِي نَحْنُ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ وَالسَّلَامِ، وَلَا تَلِيقُ بِنَا الْعَدَاوَةُ وَالظُّلْمُ وَالْحِقْدُ؟

- وَلَكِنَّكِ تَرَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ !

حَسَّنَتِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ صَوْتَهَا، وَأَخَذَتْ نَفَسًا عَمِيقًا ثُمَّ قَالَتْ:

- لَا بُدَّ أَنْ نَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ، وَلَا تَنْسَ أَنَّ رَسُولَنَا الْكَرِيمَ أَتَمَّ دَعْوَتَهُ لِلْإِسْلَامِ فِي ثَلَاثَةِ وَعِشْرِينَ عَامًا، مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ بِيَدِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ يُبَلِّغُ رِسَالَتَهُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ دَقِيقَةٌ.

ثُمَّ نَظَرَتِ الْحَمَامَةُ إِلَى عَيْنِ الْقُنْفُذِ وَأَكْمَلَتْ:

- سَنَصْبِرُ يَا أَخِي، سَنَفْعَلُ مَا بِوُسْعِنَا، وَسَنَشْرَحُ لَهُ الْحَقَائِقَ الْإِيمَانِيَّةَ قَدْرَ الْمُسْتَطَاعَ، وَالْهِدَايَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

فَرِحَتِ السُّلَحْفَاةُ جِدًّا بِمَا قَالَتْهُ الْحَمَامَةُ، فَنَظَرَتْ لَهَا مُبْتَسِمَةً وَقَالَتْ :

- إِنَّكِ الْآنَ تُقَدِّمِينَ نَمُوذَجًا لِتَصَرُّفِ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ.

- أَسْتَغْفِرُ اللهَ، هَذَا مِنْ حُسْنِ قَبُولِكُمْ، هَذِهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ أَرَاكِ فِيهَا هُنَا.

- نَعَمْ، لَقَدِ انْتَقَلْنَا حَدِيثًا إِلَى هُنَا، فَلَمَّا تَفَرَّقَ أَفْرَادُ الْأُسْرَةِ انْتَقَلْتُ إِلَى هُنَا.

نَظَرَتْ زَهْرَةُ النَّرْجِسِ إِلَى السُّلَحْفَاةِ الْعَجُوزِ بِحُبِّ وَاحْتِرَامٍ:

- أَيْنَ مَنْزِلُكِ؟

فَابْتَسَمَتِ السُّلَحْفَاةُ وَقَالَتْ :

- فَوْقَ ظَهْرِي، إنْ بَيْتِي فَوْقَ ظَهْرِي، وَقَدْ عَلِمْتُمُ الْآنَ أَنَّ انْتِقَالِي مِنْ مَكَانٍ لآخَرَ سَهْل وَبَسِيطٌ ، وَلَيْسَ عِنْدِي هَمُ الْإِيجَارِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَفِي بَيْتِي يَتَوَفَّرُ كُلُّ شَيْءٍ....

ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْقُنْفُذِ، وَقَالَتْ:

- أَنْتَ أَيْضًا هَكَذَا أَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَيْلٌ لِمَنْ يُحَاوِلُ الِاقْتِرَابَ مِنْكُمْ... الْقُنْفُذُ :

- نَعَمْ، وَلَكِنِ اتَّضَحَ أَنَّ بَيْتَكُمْ أَقْوَى مِنْ بَيْتِنَا، فَعِنْدَمَا هَاجَمَنِي التَّعْبَانُ أُصِيبَ بِجُرُوحٍ بَسِيطَةٍ، أَمَّا عِنْدَمَا هَاجَمَكِ كَادَ رَأْسُهُ يَنْفَجِرُ.

ثُمَّ أَخَذُوا يَتَضَاحَكُونَ مَعًا.

فَكَّرَ الْقُنْفُذُ ذُو الشَّعْرِ النَّاعِمِ فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى "صَادِقِ الْوَعْدِ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: "مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ فَقَدْ رَبِحَ، وَمَنْ لَمْ يَثِقُ فَقَدْ خَسِرَ ، إِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ يُحِبُّ الصَّادِقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، اَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّادِقِينَ !".

لَمْ تَسْمَعِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ أَيَّ شَيْءٍ مِنْ هَمْهَمَةِ الْقُنْفُذِ ذِي الشَّعْرِ النَّاعِمِ، فَقَالَتْ:

- مَاذَا قُلْتَ ؟ لَمْ أَسْمَعُ !

- كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ، وَأَقُولُ...قَطَعَ كَلَامَ الْقُنْفُذِ صَوْتُ فَحِيحٍ، وَكَانَ هَذَا الصَّوْتُ لَيْسَ غَرِيبًا عَنْهُمْ، وَعِنْدَمَا الْتَفَتُوا خَلْفَهُمْ وَجَدُوا خَمْسَةَ ثَعَابِينَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ لَيْسَ بَيْنَهُمُ التَّعْبَانُ الَّذِي كَانَ هُنَا قَبْلَ قَلِيلِ.

فَقَالَ أَحَدُهُمْ:

- نَحْنُ أَصْدِقَاءُ الثَّعْبَانِ الَّذِي كَانَ هُنَا قَبْلَ قَلِيل.

كَانَ مِنَ الْمُمْكِن أَنْ يَنْجُوَ الْقُنْفُذُ وَالسُّلَحْفَاةُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِمَا بُيُوتَهُمَا، وَالْحَمَامَةُ يَمَامَةُ وَالْفَرَاشَةُ بِمُجَرَّدِ أَنْ تَطِيرَا فِي الْهَوَاءِ، ولَكِنَّهُمْ لَمْ يَرْضَوْا أَنْ يَتْرُكُوا خَلْفَهُمُ زَهْرَةَ النَّرْجِسِ عَدِيمَةَ الْحِيلَةِ.

قَالَتِ السُّلَحْفَاةُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ:

احْذَرُوا أَنْ يَلْدَغوكُمْ فَإِنَّ سُمَّهُمْ قَاتِل.

لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْهُمْ يَشْعُرُ بالخَوْفِ، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله تَعَالَى مَعَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدْ حَدَّدَ لِمَخْلُوقَاتِـهِ أَجَلًا مَعْلُومًا، وَوَعَدَ مَنْ يَقْضِى هَذَا الْعُمُرَ فِي الْخَيْرِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ بِالْجَنَّةِ، وَكَانُوا يَحْتَسِبُونَ أَنَّهُمْ قَضَوْا عُمُرَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ، فَلَوْ مَاتُوا الْيَوْمَ فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ أَجَلَهُمْ قَدْ حَانَ، وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ؛ نَعَمْ، اَلْحَيَاةُ جَمِيلَةٌ وَلَكِنَّ الْجَنَّةَ أَجْمَلُ.

ثُمَّ قَالَتِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ بِنَبْرَةِ صَوْتٍ حَسَّاسِ:

سَامِحُونِي يَا أَصْدِقَائِي.

تَسَامَحُوا مَعَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضِ.

اِقْتَرَبَ الثَّعْبَانُ الَّذِي كَانَ فِي الْوَسَطِ، وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَاحِدًا تِلْوَ الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ:

- مَا الْأَمْرُ، لِمَاذَا أَرَاكُمْ تَتَسَامَحُونَ وَتُوَدِّعُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ لَقَدْ فَهِمْتُمُونَا خَطَأً، نَحْنُ جِئْنَا لِنَعْتَذِرَ نِيَابَةٌ عَنْ صَدِيقِنَا، لَنْ نَضُرَّكُمْ بِشَيْءٍ.

تَعَجَّبَ الْأَصْدِقَاءُ وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.

قَالَ شُعْبَانُ آخَرُ:

- لَا تَقْلَقُوا لَنْ نَضُرَّكُمْ بِشَيْءٍ، نَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ اسْمَ اللهِ تَعَالَى صَادِقَ الْوَعْدِ، وَنَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّهُ هُ لَا يُحِبُّ مَنْ يُخَالِفُونَ وُعُودَهُمْ، وَنَعْلَمُ جَيّدًا أَنَّهُ يُحِبُّ عِبَادَهُ الصَّادِقِينَ.

تَنَفَّسَ الشُّعْبَانُ قَلِيلًا ثُمَّ أَكْمَلَ حَدِيثَهُ قَائِلًا:

- إِنَّ صَدِيقَنَا حَادُّ الطَّبَاعِ وَسَرِيعُ الْغَضَبِ إِلَى حَدٍ مَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خُلِقَ أَفْضَلَ مِنَ الْآخَرِينَ ؛ لِأَنَّ لَدَيْهِ سُمَّا، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ الله تَعَالَى مَنَحَنَا هَذَا السَّلَاحَ لِنُدَافِعَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِنَا، كَمَا مَنَحَ السُّلَحْفَاةَ دِرْعًا، وَالْقُنْفُذَ شَوْكَا؛ وَلَيْسَ مِنْ حَقِنَا أَنْ نَلْدَغَ أَحَدًا بِدُونِ سَبَبٍ.

قَالَ تُعْبَانُ آخَرُ:

- وَلَكِنَّنَا مَخْلُوقَاتٌ نَخَافُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ حَوْلِنَا كَثِيرًا، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالشيِّء .

أُعْجِبَتِ الْحَمَامَةُ يَمَامَةُ وَرِفَاقُهَا بِكَلَامِ الثعَابِينِ، فَابْتَسَمَتِ الْحَمَامَةُ قَائِلَةٌ:

- إِذًا، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى الْمَسَافَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، لَرُبَّمَا تَخَافُونَ فَجْأَةً...فَقَالَ لَهَا الشُّعْبَانُ الَّذِي تَحَدَّثَ أَوَّلَ مَرَّةٍ:

- أَنْتِ مُحِقَّةٌ، لِنُحَافِظٌ عَلَى الْمَسَافَةِ بَيْنَنَا؛ وَمِنْ فَضْلِكُمُ اقْبَلُوا اعْتِذارَنَا.

فَابْتَسَمُوا مُعَتبرِينَ عَنْ قَبُولِ اعْتِذارِهِمْ.

اسْتَأْذَنَ الثعَابِينُ وَذَهَبُوا.

دَعَتْ زَهْرَةُ النَّرْجِسِ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا قَائِلَةً:

- رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

ثُمَّ نَشَرَتْ مِسْكَهَا، وَأَمَّنَ الْجَمِيعُ بِصَوْتٍ عَالٍ:

- آمين ..

اقرأ ايضا

تعليقات